هل تأدَّب الحزب؟!

“إلهي لا تؤدِّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك”…

دع عنك إعلام الجزيرة وأفلام الميادين، ودونك تحليلات الديناصور الدويري وأخبار السمج حسين مرتضى، والهراء الذي يقدَّم حول الحرب الدائرة… فإنَّ المشهد في لبنان كما هو في غزة، من الوضوح في الهزيمة والانكسار ما يقف على أعتاب السقوط والانهيار، والأفق المظلم الذي ينتظر حماس ومستقبل القطاع، لا يختلف كثيراً عن الذي ينتظر الحزب في بيروت ولبنان. هناك خارطة سياسية جديدة تقوم إسرائيل برسمها، وواقع تعمل بإصرار على إعادة تشكيله كضريبة على الحرب التي بدأتها “جبهة المقاومة” وشنَّتها قواها عليها، وكلما مضت في أوارها واضطرامها العسكري، واستمر هدُّها وخبطها السياسي، قرب المشهد من نهايته، ودنت الصفحة الحالية من أن تطوى إلى غير عودة! بعيداً عن المكابرة ومقتضيات المعركة الإعلامية والحرب النفسية، بُعدنا عن الشماتة بانهزام المقاومين والرضا بفشلهم وانتكاس أهدافهم وعودة سهامهم إلى صدورهم، فالمؤمن عندنا له حرمته وحقه، ولسنا ممن يسلب هذا وينتهك تلك، مهما كان منهم الجفاء وبلغ الاعتداء. إنَّ حال الحزب في لبنان لا يقل سوءاً عن شقيقه في فلسطين، والظرف العصيب الذي يمر به، لا يحتاج في إدراكه وبيانه إلى كثير فطنة وكياسة، وحتى يقف المتابع على المعضلة التي يعيشها، بل المأساة والطامة التي ينوء تحت وطأتها، يكفي تنبه المرء ويقظته من سبات الغفلة، وأن ينضو ثوب التعصب والجمود وكل ما يغشي البصر ويذهب بالبصيرة، فيخرج عن قطيع المحازبين وفلك الأنصار التابعين، بثغائهم ونهيقهم ورغائهم، فمع الأغنام التي تُذبح لتُؤكل أو لتُقدَّم قرابين، هناك دواب تُمتطى، ثم هياكل جسيمة يحسبها المغتر “قامات”، وما هي إلا رواحل تنقل الأحمال، ونواضح تجوب بالسقاء، وإبل تُنحر لزوم المهرجانات والاحتفالات، ثم ذباب يدوِّي بطنينه المزعج، يتنطَّع بإنجازاته وإن حامت أسرابه على وضر، أو رابطت في فضاء كنيف!

هذه حقيقة جلية واضحة يعرفها السياسيون قاطبة، بل كل متابع عاقل لا يقرأ بعاطفته ولا يحلل بأهوائه، يبلغها دون تكلُّف وتعسُّف، ويكفيه دليلاً، أن يحدِّد الجهة التي تعدُّ الأيام وتحسب الساعات، لإعلان انتهاء الحرب أو وقف إطلاق النار. أما الناشط في الساحة الإيمانية، والرسالي المتابع لشؤونها، الذي ينطلق في تحليله للحوادث وقراءته الوقائع من قيم دينية ومعارف إلهية، فهو لا يتردَّد في أن ما جرى ويجري على الحزب في لبنان هو تأديب إلهي، سياط تجلد ظهره، وعصا عقاب تهوي على جسمه، ومعاول هدم تطال كيانه وبُنيته! والأخطر، أنَّ هذا العقاب، في سُنن التاريخ ونواميس حركته، يسبق الغضب والنقمة والهلاك النهائي، إذا لم يرعوِ العاصي عن غيه ويعود عن ضلاله، وينثني عن تماديه وطغيانه، ويكف عن غطرسته واختياله، وما أوقعه في أخطاء بنيوية وأخذه إلى قرارات كارثية، صُمَّت عنها آذان رهفت للمدح والإطراء، ووقرت دونها أسماع اعتادت تشنيف المتملقين الوصوليين، فعاشت أبراجها العاجية، لا تصغي لناصح، بل تنفيه وتقصيه، حتى باتت همَّة “المستشار”، إن أراد البقاء والاستمرار، تصبُّ في تحري ما يدغدغ خيالات القائد ويحاكي جهالاته، ويجاريه في طغيانه واستبداده!

وهنا وقفة نرجو أن تخلص إلى درس وعبرة…

هل أدرك الحزب أنَّ للبنان خصوصيته في البنية الروحية والتربية الأخلاقية، سُبل بناء الروح وطرق تهذيب النفس وتزكيتها؟ وأن التداخل المجتمعي والانفتاح على البيئات الأخرى يفسح للتسيُّب والانحلال؟ هل عرف أن الاختيال والتباهي، وما يعبَّر عنه بالعامية “الفشخرة”، داء متأصِّل وآفة مستحكمة من ركائز العمل الشيطاني هنا؟ وهو لم يعالجها ليهذِّبها أو يجتثها من محازبيه وبيئته، بل رفدها وغذَّاها لتطغى، ووظفها آلة استعلاء على خصومه، حتى من المؤمنين! فكانوا يعيِّرون الحسينيين بإحيائهم شعائر العزاء وتركهم الجهاد والركون إلى ما يخلو من خطر وعناء، ويسخرون من المنصرفين لعباداتهم والملتزمين أداء واجباتهم الدينية، يتكبَّرون عليهم بانتصارات موهومة وإنجازات عسكرية مزعومة، مرسِّخين لغة المادية الحسية، بتفوق المعطى الدنيوي المادي على الأُخروي المعنوي، وتقدُّم مغامراتهم على الجهاد الأكبر! لم يسمع مسؤول، ولم يكترث معمم معنيٌّ بالتربية ودروس الأخلاق بأصوات التذكير ونداءات التنبيه والتحذير، ومضى الحزب في إذكاء هذه الآفات وبثِّها، وراح يُهلك النفوس بنزعة التفوُّق وما تفضي إليه من كبر وزهو وخيلاء. ولعمري لم يكتف بالتفوق العسكري والاستعلاء على شعبه بالانتصارات، حتى ألحق ذلك بالرغد والرفاه، وتقدُّم عناصره على صعيد المعاش، وما يتمتعون به من السعة والدعة التي أخذتهم إلى مزيد من السقوط في الشهوات ولوث الملذات، واستغراق في اللهو وانصراف إلى الدنيا! ثم الانفصال عن الشعب الذي يعاني العسر ويكابد الضنك… غافلاً أنَّ هذا ـ بدوره ـ رافد جديد يرسخ آفة التباهي والخيلاء، ويحقق عزل الحزب عن بيئته وأهله!

هل عرف الحزب أن هتكه حرمات المذهب واستخفافه بمقدَّساته، يفصله عن التشيُّع ويعزله عن الطائفة، ويأخذه إلى البدعة والضلال أو اللامذهبية والانسلاخ عن الهوية؟! فكأنه بعد انفصاله عن بيئته في الحالة والطبقة الاجتماعية، انفصل عن مذهبه في عقائده وأفكاره، فما عاد الشيعة في العالم يبالون بما يجري على الحزب وأتباعه، وهو الذي هتك مقدساتهم، وابتذلها حين رفع قادته إلى رتبة أئمتهم، وساوى بين أعظم رزايا الدين ومصاب الحسين، المحنة التي فجعت السماء والنائبة التي ناح لها العرش، قرنها بتضحيات لو جمعت من أدناها إلى أقصاها لما ناهضت زفرة أطلقتها الزهراء، ولا بلغت دمعة أراقتها رقية! راح يلطم ويجزع لهذه العابرات، ويسخر من تلك الخالدات، يرفض أن يخدمها حتى بذرف العبرات! غرس الحزب الولاء لقادته وأحلَّهم مكان أئمة الهدى في نفوس رعيته، فمسخ فطرتهم وأفسد جبلَّتهم وأعطب هديَهم! ثم لم يكتف حتى قطع الرافدين الأعظمين: زيارة العتبات بذرائع أمنية، ومجالس العزاء بحجة كورونا والوباء، عطَّل الحسينيات والهيئات بالقوة والإرهاب، وذهب بها عريضة حين لاحق حتى المجالس الحسينية الخاصة المحدودة في بيوت أصحابها، قحمها وسجَّل فيها محاضر ضبط وأحالها للقضاء! بحجج واهية، كان ينقضها في تجمعاته ومناسباته الحزبية، كتشييع الشهداء، لا يحسب فيها للوقاية والضوابط الصحية أي حساب!

هل بان للحزب وانكشف أنه مخترق حتى النخاع، وأن صرف الكوادر الأمنية لملاحقة الهيئات والمجالس الحسينية، وإشغال عناصره بالجبهة الداخلية، له ثمنه من خلو وفراغ أتاح للعدو النفوذ وأفسح له ومكَّنه من تحقيق هذه النتائج الخطيرة؟ هل اتضح له أن المسألة الأمنية لا تعالج بخطاب “جب البلان وأبو طنجرة وأبو دجاجة”؟! وأن الإسرائيلي يعرف جيداً ما يدور في الدور، وما يجري في المقرات وأين يسكن القادة وكيف يتنقلون؟ حتى أصبحوا أهدافاً سهلة، يلتقطهم ويستخرجهم من أوكارهم كما يعثر على إبرة في كومة قش! فما عاد المساكين ينامون ساعة ملء جفونهم، وباتوا كمن نزل به الجرب والجذام، لا يأويهم قريب ولا يرحِّب بهم صديق، خوف صاروخ لا يخطئ الهدف ومُسيَّرة لا تضلُّ الطريق! ثم هل عرف الحزب أن “انتصاراته” السابقة كانت “هبات” و”عطايا” إسرائيلية شيطانية، لزوم ترسيخ حالة ترفد التغرير والإغواء، وتخدم الضلال والإضلال؟! ولو أرادت غير ذلك لأذاقتهم ما سامت به حماساً وفعلته بغزة؟! وأخيراً، هل عرف الحزب أنَّ إسرائيل لو أرادت رأس قائده لطالته، سواء في تحديد مكانه أو في منعة وحصانة مخبئه، لكنها تركته وأخلت سبيله وأطلقت يده، فهي لن تجد أسوأ منه لتدمير الشيعة وتقويض مذهب الحق؟!

كلنا أمل ورجاء، إذا توقفت الحرب دون أن تقضي على إخوتنا في الحزب، وفي الأقل لم تفض إلى نزع سلاحهم، أنَّ لا يتحول هذا الإذلال والهوان الذي يلقونه على يد اليهود ودولتهم الغاصبة، وهذا العجز والرعب الذي يتملكهم من سطوات إسرائيل وغضبتها، وضرباتها القاصمة التي تلاحقهم في كل جُحْر ووراء كل حَجَر… لا ينقلب نقمة مضاعفة ومزيد تجبُّر وتكبُّر على غير الحزبيين، وأذىً يلحقونه بعموم المؤمنين، والأهم الذي نخشاه، أن لا يكون ثمن وقف إبادتهم، صفقة تنطوي على التعهد بمزيد تزييف للدين وبث للضلال والبدع وما يخدم أهداف الشيطان الرجيم!

“ومن البليَّة عذْلُ من لا يرعوي عن جهله وخطابُ من لا يفهم”

ضياع جيل …

“يا أهل غزة! أنتم الصيام والقيام والتهجد والسلام، أنتم الكعبة وركنها اليماني وماء زمزم والصفا، أنتم رسول الله وأهل بيته وصحابته المنتجبين، أنتم بنو هاشم محاصرون في شعب أبي طالب، أنتم معركة بدر في السابع عشر من رمضان، أنتم ليلة القدر، أنتم رسول الله محاصَر في معركة أُحد، وسيف علي بن أبي طالب يذود عنه وأبو دجانة يفتديه بروحه، أنتم ياسر وسمية يصيحون أحَدٌ أحد رغم السياط اللاهبة، أنتم مصعب بن عمير الفتى الجميل المتنعم الذي بعد إسلامه لا يستطيع أن يجد رداء يقيه من البرد، أنتم ذو الشهادتين وغسيل الملائكة، أنتم الحسين يصرخ في يوم كربلاء: ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله، ألا من ناصر ينصرني، لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند انتصارك فلقد أجابك سمعي ولحمي وبدني”…

هذه فقرات من خواطر سجَّلها طبيب كويتي شاب، ينتسب إلى الحركة الإسلامية ويسترشد ـ كما قيل لي ـ بالخامنئية، أُتيح له أن يشارك لأيام في بعثة طبية للهلال الأحمر الكويتي إلى غزة. والحق أني لمست فيها شيئاً من صدق المشاعر وأمانة الانفعال، وعرض رسالي هادف يسمو على الأنا وأغراض الشهرة والانتخابات والتسويق السياسي، وما إلى ذلك من الدجل والإفك الذي عهدناه في هذا التيار.

كلما طالعتك نماذج من هذا القبيل، تظهر في كتابات القوم ومداخلاتهم ومواقفهم، وتبرز في معاركهم وصراعاتهم… أدركت عظمة حديث آل محمد، وقيمة أسفار الكافي وبصائر الدرجات، وعرفت عمق كتب الاحتجاج وعيون الأخبار وبشارة المصطفى وكامل الزيارات، وتفطنت فخامة مدينة المعاجز وخطر الخصائص الحسينية وجلالة أسرار الشهادة وشرف القطرة، ووقفت على مدى الحرمان الذي يعيشه هذا الجيل بالانفصال عن هذا التراث الزاخر، والذخائر الثقافية الغنية، والمخزون العلمي الباهر الفاخر.

إنه الفقر في المعارف الإلهية، والإملاق في الروحانية الحقيقية، شظف وجدب وضنك ومحول، جعل أحدهم كقروي في المدينة، ينبهر بالمصباح الكهربائي، أو بدوي قادم من صحراء قاحلة، لم يعرف إلا الخيمة وظلال عريش من جريد النخل، أُدخل بيتاً من لبن أو حجر، فوقه سقف من خرسانة مسلحة تقي الشمس وتمنع المطر، ممهد ببلاط، مفروش ببعض أثاث ومتاع، حتى إذا رأى الماء ينحدر من صنبور ويصرف في تمديدات صحية ويدور… ذهل وأُخذ وراح يهذي، يحسب أنها الجنة وقصورها الموعودة ولا غير!

لعمري، لو اطلع المعدم وعاش فضاء الأحاديث الشريفة، لأنزل المقدَّسات منزلتها، ولا سيما أهل البيت، في ذواتهم ومكانتهم من عالم الحقائق، ومقامهم عند الله، حيث ينقطع الخطاب، ويرجع البصر خاسئاً وهو حسير. لو قرأ فعاش الفضاء الإيماني، لميَّز بين محن دروب الأرض، وبلايا أهل الدنيا، ومصائب نلقاها في طيف عابر نحسبه الحياة، وبين معارج السماء ومسالك الأولياء وآفاق تذهل عن تصورها العقول، حتى صدق القول بحصر اللفظ فيها ونفيه عن غيرها! “فهل المحن إلا التي لزمتكم، والمصائب إلا التي عمتكم، والفجايع إلا التي خصتكم، والقوارع إلا التي طرقتكم”؟! لوكان هذا الطبيب العليل ابن الحديث والثقافة الإيمانية الأصيلة، لعرف أن تلك تنزل بالقاصي والداني ويبتلى بها من هبَّ ودبَّ من الخلق، بينما هذه الأخرى، اختص بها الصفوة من أولياء الله، وقد خصَّها الله وميَّزها بعنايته، فخلَّد بعضها، في حرارتها وحياتها، فما زالت في قلوب “المؤمنين” كيوم وقعت! وبعث لأُخرى، كحصار شعب أبي طالب، معجزة في دويبة تأكل ميثاق المقاطعة!

لو نهل هذا المسكين من ثقافة الولاء، واطلع على ما كتب الفاضل الدربندي، لوقف على مكانة وتأثير تلك التضحيات في عالم التكوين، دون هذه التي أُخذ بها، فعرف أنها حملت الشمس ودفعت الكرة الأرضية إلى التباطؤ وما ناهز التوقف، حتى امتد يوم عاشوراء من شروق الشمس إلى غروبها نحو اثنين وسبعين ساعة! لو كان من أهل السبح في هذا الفضاء لعلم الفرق بين ما يجري في غزة اليوم وما جرى عام 61 في كربلاء، ولم يسمح بالمقارنة والمضاهاة! لو فتح الكافي يوماً وطالع في كتاب الحجة، وقرأ “الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير… فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات، ضلَّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلَّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرَّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلِّه، أو ينعت بكُنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد مَن يقوم مقامه ويغني غناه!”، لغلبه الخجل مما فعل.

وهكذا لو بقيت المجالس الحسينية على حالها من الصفاء والأصالة بذكر فضائل أهل البيت وتعظيم مصائبهم، والتوسل بتلاوة فضائلهم، لأنزل هذا وصحبه المقدَّسات منزلتها، ولما انجرف مؤمن وانحرف. لو أُبقي على سيرة تلاوة حديث الكساء، ولم يسمح للمتردية والنطيحة بالتشكيك في الأسانيد، لما خفي على المؤمنين أنَّ الله لم يخلق سماء مبنية ولا أرضاً مدحية ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فلكاً يسري إلا لأجل محمد وآله، ولما سمح أحد لنفسه أن يتجاسر ويتجرأ فيقول ويكتب ما كتب! أخلوا مجالس العزاء من روادها، وقلبوا منابر سيد الشهداء وشوَّهوا محتواها، وأغووا الناس باسم القرآن، كما فعل عبيد الله ابن زياد، فافتقر العوام وأفلسوا، وصاروا يقرنون قادتهم بآل محمد، وهاهم لا يرون غضاضة أن يساووهم بأهل غزة وفلسطين!

يتهالك أحدهم ويتماوت أن لا يُطلق لفظ “رمضان” على شهر رمضان، فهو من أسماء الله، التي قد تهتك وأنت تقول جاء رمضان وذهب مما يعرض للزائلين، ويتداول حديثاً شريفاً يمنع ذلك… ثم تراه يقع في هذا الخبط والخلط والهتك والهذيان، لا يُبقي حُرمة لمقدَّس من المقدسات، لا صيام ولا قيام، لا كعبة ولا مقام، لا زمزم ولا صفا، لا جهاد أصغر في بدر، ولا أكبر ليلة القدر! وما زال يحسب أنه يرقى ما طيَّب له الشيطان وحسَّن الأعوان، حتى يهتك رسول الله وأهل بيته، ويزرى بدفاع جلجلت به السماوات، واهتز من وقعه العرش، ليرعد نداء “لا فتى إلا علي”، حتى إذا استحكم فيه التعس وغلب الشقاء مزَّق كل مقدَّس ونال من سيد الشهداء، وهو يُنزله إلى مرتبة أناس لا يقرب ملايين منهم من تراب علق بحافر ذي الجناح!.. ثم لا أحد يردعه وينهاه، أو يزجره ويضربه على يده، أو حتى ينبهه وينصحه!

والبصراء الواعون يعرفون خلفية هذا التعدي، فهناك منظومة متكاملة قامت على هتك المقدسات، وما زالت ترفد ذلك من خلال: تشويه موقع العقل في المعارف الدينية / قراءة سطحية للإمامة تأخذها إلى مستويات القيادات الحزبية / إسقاط الأحاديث عبر التشكيك في أسانيدها والطعن في ثبوت صدورها.

وبعد، هذه قراءة افتراضية لمؤمن أصيل، أتيح له أن يسعف المغلوب على أمرهم في غزة، فعاش تجربة الطبيب التائه، وعاد ليسجل فيض الخاطر من مزيج اختمر بفاضل الطينة، فكتب: عندما تعجز الآلة العسكرية، ويتفوق العدو بعدته وعديده، باقتصاده وسياسته، بعلوم وتقنيات تسقط في يدك… تتكرر حملة أبرهة ويعود جبروت القوة، فلا سبيل إلا الغيب واللجأ إلى الله. ليس لكم يا أهل غزة إلا ما فعله شيبة الحمد، عبدالمطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وآله، وهذا أبوه هاشم بين ظهرانيكم، فالجؤوا إليه! افتحوا أبواب حرمه الشريف، اقصدوه بالزيارة والتقرب، تشفعوا به وتوسلوا، لوذوا به واعتصموا، لعل الله ينجيكم من هذا البلاء. لا نريد تعطيل الأسباب وإلغاء خصائص الأشياء، والتنكر لسيرها الطبيعي، ولكن عند العجز، عند البون الحضاري الشاسع الذي تسبب فيه الذين غصبوا حق آل محمد، لا سبيل لوقف الفيلة إلا طير أبابيل وحجارة من سجيل، ومقاليد هذه بيد آخرين، لا إيران ولا الإخوان المسلمين.

لا سلطان على الحوزة…

لا شيء أكثر لوعة ومرارة من تناول المرجعية العليا بالنقد، وتسليط الضوء على نقاط الضعف، سواء في شخص المرجع الكريم، أو في بيته وإدارته… وذلك لأسباب مختلفة وعلل متعددة، في طليعتها قدسية المقام وحُرمة الدور، ولا سيما في نموذج متفوِّق مثل الذي بين أيدينا، وقد حقَّق أعلى مراتب النجاح، وسجَّل أقصى درجات البراعة والألق في جبهتين، لا تدري أيهما أكثر خطراً وعظمة: مواجهة داعش والقضاء على خطر الإرهاب التكفيري، أم استخلاص المذهب من براثن الجمهورية الإسلامية، والحفاظ على استقلالية الحوزة من تبعية الدولة؟ وهو أداء سيشهد له ويشيد به التاريخ، بعد أن أُدرج من قبل في صحيفة أعمال هذه المرجعية المسدَّدة، وغدا مفخرة لها في السماء قبل الأرض. هكذا تحوَّلت المرجعية إلى واجهة أمامية، وغدت في طليعة من تناصبه داعش وإيران العداء! فلا يسع المنصف أن يلحق بهذه الجبهة الباطلة الظالمة، ويتموضع في خندقها، وهي تشكِّل أكبر تهديد للمذهب وأخطر وعيد للدين.

لكن بارقة ومضت هنا، حين بادر نجل السيد بإصدار بيان تناول فيه وضع الحوزة وحالها، وما يتهدد مستقبلها، فكأنه فتح الباب وأفسح للدخول فيه، ورفع عن النقد ومساعي الإصلاح الحظر، وأزال عنها التعطيل والمنع… وعلى الرغم مما يُقال عن تأخر صدور البيان، والتسويف الكبير الذي خلق واقعاً وأرسى حالة ما عاد من الهيِّن تجاوزها، سلك بها الوصوليون في طريق الشهرة ما صنع منهم نجوماً في الإعلام الديني، وأعلاماً في شؤون الحوزة والمرجعية، فباتوا من الأرقام التي ينتظر العوام إرشاداتها، أين عساهم يوجِّهون وإلى مَن سوف يُرجِعون؟!.. لكن أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً. ومع وجود هذه الثغرة، فإنَّ هذا البيان إذا حظي ببُعد تنفيذي، ونال حصته من التفعيل والإعمال، فإنه قد يوقف التدهور والانحدار، بل ينجح في خلق منعطف تاريخي في مسيرة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، يستدرك ما فات.

بادئ ذي بدء، علينا التوافق أن لا ولاية ولا سلطان لأحد على الحوزة، لا فقيه بعينه ولا مرجع تقليد دون غيره، ناهيك بدولة وحكومة. الحرية قوام أصيل، يمثل جوهراً دونه تتحول الحوزة الى شيء آخر. وهناك أصل يتمسَّك به الحوزويون، يقول بتحمُّل الخسائر ودفع أثمان الفوضى، مقابل مكاسب وإيجابيات التنظيم الذي يفضي إلى هيمنة جهة وسيطرة فئة، والتجربة الإيرانية خير برهان، قاموا بتنظيم الحوزة وضبطها، فغدت حزبية وسقطت في أحضان الدولة!.. غاية ما هناك، مما يمكن ممارسته وجرى إهماله، أو طُبِّق بانتقائية، هو القوة الناعمة والسلطة المعنوية، التي تنظر شزراً وترمق من طرف خفي، تهمس غامزة، وتتساءل طاعنة، فتردع وتوقف، تحاسب وتصنِّف، تعرِّض وتسفِّه، وللمرجع الأعلى وإدارته في هذا اليد الطولى، وكل باع يمكن تصوُّره ومتاع… لكن تحقيق الفعلية مترتِّب على مدى المصداقية، وهذا بدوره فرع الالتزام الشخصي، والنزول على القاعدة النبوية في الدعوة الإلهية، التي أرساها صلى الله عليه وآله في خطبة الوداع: “إنَّ ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبدالمطلب. وإنَّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنَّ أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب”.

قد لا تملك المرجعية منع اليعقوبي والبديري والبغدادي وأضرابهم من الذين تقف خلفهم أجندات خارجية، دول وأجهزة مخابرات، ومرتزقة من المريدين وشياطين من الأتباع… لكنها تستطيع أن توقف مهزلة الإشكوري وسيد رشيد على سبيل المثال! لا يمكن أن تسمح لرجل بتأسيس جامعة النجف الحوزوية الألكترونية النسوية باسم المرجعية، فينتسب إليها عشرات آلاف النساء والفتيات، ويدعم بميزانية وإمكانيات خرافية، ويولَّى من بعدُ أخطر مرفق إعلامي في الحوزة، ويتصدى لأعظم مناسبة شعائرية على مدار العام… ثم تستنكر انتحاله عنوان “آية الله”، فلا أُستاذ يُعرف له، ولا حضور يُشهد له، لا في قم ولا في النجف، اللهم إلا “حوزة” القائم المُدرسيَّة في طهران؟! لا يمكن أن يُرخى العنان لخطيب الجيلوجيا والكيمياء، ليكتب ما يشاء ويدرج ما يطيب له من تنظيرات في بيان، ثم ينسب البيان إلى المرجعية! حتى إذا غلبه الزهو، وغرَّه التقريب والزلفى التي تخلع العطايا والهبات على كل من حمل كتاب تزكية منه، استُنكر عليه إلقاء البحث، وإطلاق “آية الله”؟! قد تتفهم الحوزة ضرورة هذا الإطلاق على سلطان غشوم، في غمار فورة وحماسة اكتسحت الساحة في ظرف عملية اغتيال بشعة، لم يمكن مقابلتها إلا بالتقية والمداراة، ولكنها لم ولن تتفهم تأبين ضال مضل مثل آصف محسني، أحد أعمدة الانحراف وأقطابه في عصرنا؟! وبعد، فقد يتمتع أحفاد المرجع بنبوغ أو تميُّز فائق يسمح لهم بالاستقلال بالبحث، لكنَّ دور الردع ورسالة النصح والإرشاد، لن تأخذ مكانها حتى يكفَّ الأحفاد عن تبوُّء هذه السدة والتصدِّي لهذا الدور!

لعل تسديداً إلهياً دفع إدارة المرجعية لإصدار هذا البيان التاريخي، فالمعطيات تلح بأن آن أوان إرجاع الأُمور إلى نصابها، قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه في إيران، كما ظهر في الانتخابات الأخيرة، فهذا مرشح (يدعى جلال رشيدي) في مدينة “مرودشت” أسقطت السلطة صلاحيته ولم تدرج اسمه في أوراق الانتخاب، حقق المرتبة الأولى وحظي بأعلى نسبة من أصوات المقترعين! وكأن الشعب دخل في عناد ولجاج، لم يعد يعبأ لشيء ولا يكترث لعائد. إنَّ الساحة الإيمانية تقف على أبواب ردَّة تقطع ثقتها بالحوزة، وهي تراها سلبية تجاه العبث بعقائدها، غير مكترثة ولا مبالية بهتك مقدساتها، وهذه تيارات الضلال تستحوذ على الظهور الإعلامي، وتحظى بدعم “حوزوي” من هنا وهناك، ولا يقتصر ذلك على أدعياء العلم، بل حتى من حظي به وتوفر على شرطه، تراه سقط في العدالة وافتقدها، فراح يُفتي بأنَّ قضية الزهراء هي مجرد واقعة تاريخية لا موقع لها في العقيدة، مقابل ريالات قذرة!..

لقد جاء البيان ليضع حداً لهذا التسيُّب، وينهي فصلاً من الهراء الذي تقمَّص لبوس الحوزة والفضيلة! لعلها رسالة لوعة وحسرة من المرجعية، تقف على “خيانة” طبقة استغلت الطابع “النجفي”، فاختلست ما استطاعت في غمرة الغفلة، واغتنمت السكوت الحاكم فسرقت ونهبت ما تمكَّنت! توغل الصعاليك، ونفذوا حتى بلغوا مواقع التأثير، خلقوا فوضى وعاثوا فساداً، فحان حين التصدي، ولزم تصحيح المسار، وإن استدعى الكي بالنار!

وبعد، فالزهد في المسكن والملبس والمأكل، مشهود لا ينكر، خلق من أبناء المرجع الأعلى قدوة، وصنع نموذجاً أتمَّ على كل طالب وعالم الحجَّة، فجزاهم الله عليه كل خير… لكن الأمر في أعماقه يبلغ غوراً يتجاوز هذا وذاك! وهنا لا يملك الناصح إلَّا أن يقبِّل الأنامل ويهمس في أُذن واعية، بأنه كلما سئل فاضل محترم، معتز بكرامته محافظ على رزانته، نأى بجانبه وأعرض ما استطاع عن الدنو والقرب من بيت المرجع؟ هل صحيح ما يقال أنَّ الموظفين هناك ينظرون في وجه ابن المرجع كل صباح، فيصنِّفونه تبعاً لذلك يوم سعد وإقبال، أو تعس وإدبار؟! بالله كيف تحول مزاج ابن المرجع معياراً يترصَّده المحيطون والمراجعون؟ ماذا أبقينا للسلاطين والملوك؟ وصدق الشاعر حيث قال: إذا كان الحديث عن المعالي، رأيتُ حديثكم فينا شجونا.

“المنتظرون” لا تبدِّلهم غزَّة…

أقرَّ الإسلام بعض العادات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، وأبقى على أحكام ورثها العرب من ملَّة إبراهيم وإسماعيل، بعضها تفاصيل جزئية من قبيل الاستنجاء من النجاسة وغسل الجنابة وختان الأطفال وقطع يد السارق، وأخرى كبيرة بارزة كتعظيم الكعبة وحج البيت الحرام، وتحريم القتال في الأشهر الحرم. تلقوها كتراث، لكنهم غيَّروا فيها وبدَّلوا، أدخلوا في الحج المُكاء والتصدية، وهو التصفيق والصفير، وأعفوا قريشاً وأهل مكة (وهم الحُمْس) من الوقوف في عرفة، وكانوا لا يأتون البيوت من أبوابها وهم محرمون، بل يتسوَّرونها من ظهورها، كما كان أهل الحِلِّ (سائر الناس من غير سكَّان الحرم) لا يطوفون بالبيت إذا قدموا إلا في ثياب الحُمْس، وكان أهل مكة يتكرمون ويحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فإن لم يجدوا شيئاً طاف الرجال عراة، ووضعت المرأة ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً (مشقوقاً من الأمام والخلف) ثم تطوف فيه.

كما تلاعب العرب بالأشهر الحرم، وغيَّروا ترتيبها ومواقيتها، يقدِّمون فيها ويؤخِّرون، ثم يحتجُّون بأنهم التزموا عدتها، أربعة! تُلجئهم الحاجة إلى الغزو والقتال، تنفذ ميرتهم وما ادَّخروه من طعام، وغير ذلك من علل وأسباب تطال وضعهم السياسي في مواقف القبائل من بعضها، وتشكيل الأحلاف وتموضع الجبهات، وتخدم مصالحهم الاقتصادية والمعيشية، كأن يعرض لهم “صيد” ثمين يخشون فوته، قافلة مثقلة ببضاعة تحملها من الشرق أو الغرب، يوافي دخولها حمى القبيلة شهر المحرَّم، فيحلونه ويجعلون صفراً بدلاً عنه، ثم يعودون من قابل إلى ما كانوا عليه! وهو النسيء الذي أنزل الله فيه “إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلُّونه عاماً ويحرِّمونه عاماً ليواطئوا عدَّة ما حرَّم الله فيحلُّوا ما حرَّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين”.

وهو لو تدبَّرتَ، كالقذَّة بالقذَّة مما يفعله الإسلاميون الحركيون مع شعائر المذهب ومعالم التشيُّع! انقلبوا عليها وبدَّلوها خدمة لقضاياهم السياسية وشعاراتهم في الوحدة الإسلامية، وعوناً لأهدافهم وأغراضهم في تحقيق اللامذهبية، رفعوا القرآن وأفشوا جلسات التلاوة والأنس وحلقات الحفظ والترتيل، جعلوها مقابل الشعائر الحسينية من عزاء ومزار، فلما وجدوا من الشيعة تمسكاً بها، أقحموا في العزاء خطاباً يغيِّر صورته ويبدِّل جوهره، فالشارع المقدَّس ندب إلى البكاء على أهل البيت، عظَّم الدمعة التي تراق في هذا السبيل، ما حمل الشيعة على تأسيس الحسينيات ووقف الأموال عليها والبذل في سبيلها، وتحمَّلوا لتحقيق ذلك المشاق ودفعوا الأثمان… والقوم ينادون بالبكاء على مصائب الانتكاسات السياسية التي نزلت بهم، والرثاء على فجائع طالتهم في حركتهم وتضحياتهم في سبيلها، فيندبون ضحايا غزَّة ويبكون فلسطين!

فإذا أعوزهم الخطاب السابق والتقت سياستهم معه، خدمت اللغة الولائية مصالحهم ووافقت أغراضهم، عادوا إليها، كما فعلوا في سوريا، صاروا يبكون الحرم الزينبي، ويندبون حرمات أهل البيت التي يتهددها الدواعش الوهابيون! وينادون: لن تسبى زينب مرتين، ولن يسمح عباس الزمان بدنو يزيد العصر من حرم زينب كما هتك خباءها من قبل!

الحسين سطر معجزة حين نادى رأسه الشريف: إذا سمعتم بشهيد أو قتيل فاندبوني، والقوم إذا سمعوا بشهيد مؤمن أو قتيل مسلم يتركون الحسين ويندبون قتلى حماس وضحايا غزة! ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرَّم الله وجهه على النار، لكل شيء ثواب إلَّا الدمعة فينا. وعن الرضا عليه السلام: على مثل الحسين فليبك الباكون، فإنَّ البكاء عليه يحطُّ الذنوب العظام. وفي آخر: من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منَّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب… والأحزاب تعرض عن هذا ومئات مثله، تحضُّ على تركه واستبداله بغيره! وعن الرضا عليه السلام أيضاً: يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك الحسين بن علي عليه السلام، فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السموات السبع والأرضون لقتله، إلى أن قال: يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين عليه السلام حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً… والتيار الحداثي التنويري يدعو لتأويل عصري يأخذ هذه النصوص والأوامر المقدسة لما يرفد الحركة الإسلامية ويخدم الثورة والجهاد، وإلا رمى هذه الشعائر والعبادات بالرجعية، وقذفها بالتخلُّف والجمود!

بالأمس عقد في دار إحدى المؤمنات مجلس نسائي بمناسبة الفاطمية، نهضت به “ملاية” دعتها صاحبة الدار، لسمعة سبقتها بالاستقامة ورقة الإنشاد والإبكاء. بعد الديباجة والمقدمات، نوَّهت المسكينة، بأنَّ قضية الزهراء ومصيبتها معلومة معروفة، طالما بكيناها وعدَّدنا صوَر المأساة فيها، فدعونا نذهب إلى فاجعة نعيشها، هي مأساة غزة، وراحت تنقل صوَر قناة الجزيرة، وتقارن بأن إحدانا يؤرقها جرح صغير أصاب وليدها، والفلسطينيات يتناولن أطفالهن الرضع أشلاءً من تحت الركام.. فتقوم الضجة من المستمعات، وتنقلب المصيبة وتتبدل صورة وجوهراً!

إنه النسيء المعاصر، قلب الدين وتبديله على أيدي أتباع إيران وربائب الإخوان!

الملاية المؤمنة ـ كما علمت ـ ليست منحرفة مندسة بيننا، ولا حزبية متوغلة في صفوفنا، وهي امرأة صالحة، غاية ما هناك أنها متواضعة في مستواها العلمي والثقافي، تمضي على سذاجتها وبساطتها، غلبها الإعلام وأسرتها أجواء العوام، انفعلت وتأثرت، وأخذها العقل الجمعي الحاكم، فطرحت ما حُمِّلت وقالت ما لُقِّنت! فانظر إلى درجة الخطر وحجم الخرق والفتق، وقد غزينا في عقر دارنا، وانظر في مدى تقاعسنا وتهاوننا، الذي أفسح لهذا الخرق وتركه لينمو، وأخلى له حتى اتسع وبلغ هذي الحدود، فجلُّ مجالس الفاطمية الثالثة هذا العام انصرفت إلى غزة، ندبت ظلامتها وبكت قتلاها!

على خطى الجاهلية، يمضي أرباب الحداثة والتنوير، ويسلك أتباع الحركة الإسلامية!.. عبث في شعائر العزاء، لك أن تقرأه في إعلانات المجالس التي جعلت للراثي الناعي (وهو الأصل) ثلثاً بل ربعاً، بعد قارئ القرآن والمحاضر والرادود! ناهيك بتغيير في ماهية العزاء، خلط اللطم والرثاء بالسياسة والغناء، وتجاهل المصاب وقلبها دعوى، فالحسين في زعمهم يريدها ثورة، والبكاء شأن الضعفاء أو النساء، فإذا قضت السياسة عدم دخولهم في الحرب، عادوا للطقوس التي قبَّحوها، وانخرطوا في اللطم والبكاء! لكن صرفوه لقتلاهم ووجهوه لمحنتهم.

“إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم”.. إنها حقائق قرآنية وعبادات توقيفية، ليس لنا أن نزيد فيها أو ننقص، ولا أن نسقطها على حوادث مقطعية، نعبث بالحج كما فعل عبدالملك بن مروان، فنجعله إلى القدس، ولا في شعائر العزاء، نصرفها عن الوجهة التي شُرِّعت لها، إلى مصلحة سياسية نرتئيها، وحكمة نقدِّرها.

إنما استحل أول ما استحل من دم سيد الشهداء بضربٍ من النسيء، قياس وتطبيق، جعل حفظ بيضة الإسلام، بحرب مَن خرج على “إمام الزمان”، وإباحة دم سبط رسول الله، فقتل “بسيف جدِّه”! وجعل من قبل، ما “اجتمع” عليه المهاجرون والأنصار في السقيفة أهم من حقِّ علي الثابت في الغدير، وصيَّر حفظ النظام واستقرار الدولة وتمركز السلطة، أولى من ضياع حق الزهراء في إرثها وحفظ حُرمتها… هكذا هي السياسة، وهذا ما تفعله بالدين. فنزِّهوا ديننا عن سياستكم يرحمكم الله، وخوضوا فيما شئتم، اخنقوا أنفسكم بالكوفية الفلسطينية، قاطعوا البضائع التي تريدون، اخرجوا في المظاهرات التي ترغبون، أنتم أحرار في دنياكم، لكن إياكم والدنو من ديننا، عقائده وأحكامه وشعائره، سنشير إلى ضلالكم، وندس أصابعنا في عيونكم ونحن ننادي ونحذر أبناءنا: إياكم والبدع وأهل الرأي المخترع.

مضى الشهداء وقضوا نحبهم، وبقي المنتظرون، لا يبدِّلون ولا يغيِّرون، إمامهم المنتظر في بكاء وجزع على الحسين والزهراء، وهم به مقتدون… غزة قضية محقة لكنها عابرة، والفلسطينيون مظلومون، نتعاطف معهم ونعينهم ما استطعنا، لكننا لا نبيعهم ديننا، ولا نفقد بسببهم آخرتنا.

الأداء الشيعي في غزة، بين الإسلاميين والمتدينين…

لا جدال في  أحقية القضية الفلسطينية، ولا ريب في ظلامة أطفال غزَّة، كما أنه لا شكَّ في “لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود”، وحقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين، هذه قضية لا تحتمل التوقف والتأمل، وهي تمتثل في الوجدان الشيعي كحالة عقائدية ومسلَّمة تاريخية، انعكست في المواقف التي يتخذون، وظهرت في سلوكٍ غير مظنون. ولا يخفى أنَّ الخيارات المبذولة والنطاقات المتاحة على هذا الصعيد محدودة، فالقضية الفلسطينية وإن بدأت نزيهة، لكنها لم تستمر كذلك بسبب خيانات بعضهم وصفقات بيع الأراضي، وتفريط العرب وتخلُّفهم، وسرعان ما تحوَّلت إلى سياسية واستعراضية، مع شعار إلقاء اليهود في البحر، الذي أطلقه عبدالرحمن عزام أول أمين عام لجامعة الدول العربية وكرَّره عبدالناصر وجملة من الزعماء العرب، وانتهت عند مقولة السيد الخميني “إسرائيل غدَّة سرطانية”… نكص العروبيون على مقولتهم وارتدُّوا عنها، وتنكَّر الإيرانيون لشعارهم وتبرَّؤوا منه، وبات الجميع يدعون لمشروع الدولتين، والنزول على حكم سكان فلسطين من مختلف الأديان والأعراق، فهم وما يرون في مستقبل بلادهم، وهذا اعتراف بدولة إسرائيل وشرعية الكيان الصهيوني.

في ظل هذا الواقع المرير، وما نشهده من تعاطٍ دولي وإقليمي، حكومي وشعبي، خلق حالة وفرض معادلة لا يمكن تجاوزها، اللهم إلا بفعل ثوري، لن يلبث ـ بدوره ـ أن يخمد ويؤول للانزواء ثم الزوال (كما كان من الخمينية، والماركسية من قبل، والماوية من بعد)، أو مغامرة تفضي إلى الانتحار وتحميل النفس ما لا يُطاق، من قبيل ما يجري في لبنان، الذي قدَّم ـ حتى الآن ـ نحو مئة نفس محترمة في هذا الطوفان، ما زالت “الجزيرة” تستنكف أو “تتورَّع” أن تطلق عليهم شهداء! هذا هو الأداء الذي يريده أتباع إيران وحلفاء الإخوان، وإن في نطاق محدود، يشكِّل صندوق بريد لرسائلهم، ولعمري كم هي مكلفةٌ القرابين، وأثمان “الطوابع البريدية” لهذه الرسائل! وفي هذا السياق تجد أحد الأبواق الرخيصة، يغني “الصولة العراقية”، وكأنَّ العراق ينقصه القردة، تنزو على منابره، حتى أسرجوا لهذا البغل الذي دمَّر بلده من قبل، وأرسلوه ليشعلها حرباً على القواعد الأمريكية، لا يبالي أن يحترق العراق ويُدمَّر، ولا يعنيه رأي المرجع الأعلى وموقفه، الرافض للمواجهة المسلحة. وماذا عسى نتائج هذه الأغاني والمسيَّرات والمفرقعات أن تكون، غير الفوضى التي تعبِّد الطريق، وهي تخلق حالة وأزمة ترسم الحل في عودة النظام السابق أو نظير له، سبيلاً حصرياً لتحقيق الأمان والاستقرار؟!

إنَّ واقع الحال يجعل الممكن المتاح، عقلاً وشرعاً، يدور بين تقديم تبرعات نقدية وعينية، والتزام مقاطعة السلع والشركات التي أعلنت تأييدها للصهيونية، ثم أنشطة وفعاليات رمزية كالتظاهرات السلمية والاعتصامات المدنية. هذا ما فعله المسلمون كافة، شيعة وسنة على السواء، في مختلف بلادهم وشتى بقاع الأرض، ما خلا اليمن والعراق ولبنان، التي يحاول فيها ويناور أتباعُ إيران.

أما الخيار الأسوأ عقائدياً والأخطر دينياً، فهو الانخراط في الأداء الإعلامي والخطاب الثقافي الذي تبنَّته الجمهورية الإسلامية والأحزاب التابعة لها، الذي يجعل فلسطين هي القضية الدينية والاجتماعية الأُولى، عقيدة في النفوس وحضوراً في الحياة، ما يتهدد معالم المذهب الإمامي بالطمس، والهوية الشيعية بالدفن، والسمة الروحية والشخصية الولائية لأبناء الطائفة بالتقويض والمحق… لقد أقحموا فلسطين في شعائرنا الدينية، من أقصاها، في المنابر الحسينية ولطميات العزاء، إلى أدناها، في الزي المتعارف لرجال الدين، أضافوا إلى العمامة والجبة والعباءة، كوفية فلسطينية تلف الأعناق، وسمِّها إن شئت طوق استرقاق!

والأمر لا يقدم من تعصُّب وتحسُّس وريبة، بقدر ما هو وعي وحكمة وبصيرة، إذ لا بأس أن نشارك الآخر إحياء مناسباته، ما دامت حقاً، فلا ضير أن نحتفل بميلاد المسيح، على سبيل المثال، لكن في حدود ونطاق يُبقي على مكانة أئمتنا، ولا يمس شعائرنا الخاصة، ولا قضايانا الأصلية وتراثنا وتقاليدنا الموروثة، لا يُخلُّ بها ولا يغيِّر طابعها، من هنا لا يسمح الشيعة لأي شخصية أو قضية أو حادثة، ماضية أو حاضرة، أن تكون الأُولى ولا الدائمة الثابتة، على حساب معالم المذهب الحق وشعائره.

إنَّ هذا المسعى المريب الذي يريد إقحام فلسطين في الدين، ينطلق من حيثيتين، أو هو قيح ينزُّ من ورمين خبيثين أو بؤرتين ملتهبتين، الأولى حزبية تؤمن باللامذهبية، تجمع الإخوان المسلمين (حماس والجهاد وغيرها) بحزب الدعوة بالخامنئية، والثانية نفسيَّة مرَضيَّة، تنطلق من الضعة والهوان وعقدة الدونية التي تتملك بعض الشيعة، يستشعرون وجوب “إثبات” إيجابيتهم للآخر، وإظهار التحاقهم بالركب العام في سبيل تحقيق ذواتهم، شخصيات مهزوزة وروحيات خاوية، عقول ضحلة وأفهام سخيفة، والمؤلم أنَّ بعض هؤلاء هم من الأكاديميين والمثقفين، وإن جاء أغلبهم وقدُم أكثرهم من بيئة حزبية، عاش في حماها ودار في فلكها ومضى في ركبها، متأثراً بالبؤرة والعامل الأول… حالة خلقت ثقافة مشوَّهة وأورثت انقياداً وإمعيَّة أو رعاعية إن صحَّ التعبير، تذكِّرك بأهل الشام حين أقام فيهم معاوية الجمعة يوم الأربعاء!

ومن غريب أحوال هذه الشريحة الناشطة في الساحة الإيمانية، أنَّ منطلقاتها تقدمية ومزاعمها حداثوية وخطابها علمي، بينما سلوكها مغرق في الرجعية والشعبوية الغبية، وفعلها مسرف في الجهالة والفوضوية! ترى أحدهم يحمل شهادة عُليا، تفرض فهمه لأوَّليات العلم وضرورة التخصُّص، وإذا به يقحم ميادين لا علاقة له بها، ويخوض في حقول لا يُحسن، ناهيك بأن يُتقن، ألِف بائها! لا يرون في هذا عيباً ولا نقصاً، فلا غضاضة أن يشخِّص مهندس المرض، ويصف ممرض العلاج والدواء، الذي ركَّبه من قبل شاعر مفلق! من هنا يقحمون الحقل الديني، ويخوضون في مواقع تتطلب رتبة علمية عالية، ولربما ملكة اجتهاد، ويتبعون في تكتلاتهم نكرات، يلوذون بشباب مغامر قفز على المراحل، أخذ عن المخالفين، وحمل وهو بعدُ غرٌّ راية إصلاح الدين، ويلوذون بمستبصرين مشبوهين ومعقَّدين، يلهثون وراء الأضواء، يترصَّدون كلَّ مفخرة للمذهب ومأثرة ومعجزة للأئمة الأطهار، ويتتبعون كلَّ يد لهم على المخالفين وفضل على سائر الأُمم، فيُجحد ويُنكر! هذا ينفي تتلمذ أبي حنيفة على الصادق، وذاك يتهالك ليثبت أن جابر بن حيان شخصية وهمية، ويتحايل ليُسقط فضل الإمام الصادق على علم الكيمياء، وإبطال ما يعترف به الغرب في أعرق الجامعات! والقوم يتبعون ويصفقون ويرقصون… ومن هذا السبيل يلحقون بالدبكة الحمساوية.

وللإنصاف، فإنَّ حركة حماس ليست تنظيم الدولة الإسلامية، وما يجري في غزَّة ليس من قبيل أفعال القاعدة، ولا هم يتبعونها تنظيمياً، هذه حقيقة يقرُّ بها التحليل والتحقيق الموضوعي، ولكنهم ـ من جهة أُخرى ـ مدرسة ومذهب واحد في العقيدة، وحتى في الموقف والاصطفاف السياسي، ذلك أنَّ حماس متى رأت الحاضنة التي تؤويها، أكثر حقداً ونصباً من داعش، فهي ستميل إلى التكفير، وتبني طرحهم العقائدي، وترتب على خطابهم الثقافي، وتتخذ موقفهم السياسي، وقد فعلت في سوريا.

ببساطة شديدة، هؤلاء أبناء الرنتيسي الذي أُبعد عام 1992 إلى لبنان ومعه نحو أربعمئة ناشط إسلامي، من الضفة وغزة المحتلتين آنذاك، جلُّهم من حماس وقلَّة من الجهاد، أقاموا مخيماً في مرج الزهور، وصاحب رباطهم هذا حملة إعلامية وسياسية عربية وعالمية أرغمت سلطات الاحتلال على إرجاعهم، وقد باشرت إسرائيل بإعادتهم إلى وطنهم عام 1993 على دفعات. ولك أن تتلمس طبيعة هذه الجماعة، وتقف على هويتهم الحقيقية، دون تكلُّف أو تعسُّف، ودون كُره لهذا الشعب ولا حقد عليه، وأنت ترى هؤلاء المبعدين، الذين كانوا ضيوفاً على الجنوب الشيعي، يأتيهم المدد من مأكل وملبس إلى وقود تدفئة، إلى ميزانية حرَّة وأموال غير مشروطة، كلها من الشيعة، الذين ألحقوا ذلك بتسخير أجهزتهم الإعلامية، إذاعة وتلفزيون وصحافة، نصرة لهم ودفاعاً عنهم… ثم تشهد بعد كلِّ هذا، كيف غلبهم التعصُّب وأعماهم الحقد حتى أدخلهم في معركة وهمية حملتهم على تسمية مدرسة دينية أسسوها في مخيمهم (من الأموال التي بذلها لهم الشيعة)، باسم “ابن تيمية”! لم يختاروا غيره من الصحابة الذين يقدِّسون، والتابعين والعلماء الذين يحبُّون ويجلُّون! وليست هذه حالة فردية ولا استثناءً عارضاً لا ينبغي البناء عليه، بل هي الأصل في الإسلاميين (دون العلمانيين وسائر الشعب الفلسطيني)، ولو نظرت في أحوالهم الداخلية وتتبعت انشغالاتهم الحالية، لوجدت الهامش الأكبر من جدالهم اليوم يتوجَّه لمعضلة تلقِّي العون من الرافضة؟! وأكثرهم اعتدالاً يفتي بالجواز مستدلاً باستعانة رسول الله والخلفاء الراشدين بـ “الكفار”! لا كريم فيهم يستحي، ولا شهم يعتذر، ولا عاقل يقول كم هو معيب هذا البحث والجدال، والشيعة هم الجهة الوحيدة التي تعيننا!

إنها طبيعة في الإسلاميين، فلسطينيين وغير فلسطينيين، لا وفاء للحزبيين ولا مروءة، لا نبل فيهم ولا كرامة. إنَّ سهك البحر ونتنه لا تذهب به قارورة طيب تدلقها في مياهه، وفساد هذه البُنية لا يصلحه إحسان ولا يداويه إفضال… إنَّ الأحزاب الدينية والحركات الإسلامية تتاجر بقيم الدين وتعبث بحرمات الله وتمارس ما يهز العرش، فلا ترجُ من اللئام خيراً ولا ترقب منهم إنصافاً وعدلاً. الشيعة المنخرطون في رقصة أو دبكة الموت هذه، يخبطون الأرض بأقدامهم، ويلوِّحون بسبحات صلاتهم، وآخرون يشرعون صدورهم لتلقي الرصاص، ويستشهدون في سبيل إشغال الجيش الإسرائيلي وصرف تركيزه ومنع تفرُّغه لغزَّة، ولا أحد منهم يسأل: مَن هم هؤلاء الذين نضحِّي في سبيلهم؟ هل نبض عرق إنسانية في أحدهم يوماً فسمعتم منه استنكاراً أو إدانة لجريمة واحدة اقترفها الإرهاب التكفيري؟ أو حتى مواساة ومجاملة، لظلامة نزلت بنا، دون نزال ومعركة، من قبيل تفجير حرم الإمامين العسكريين عليهما السلام في سامراء! صدق المتنبي إذ قال: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمرَّدا.

بين اندفاع الإسلاميين وتهورهم، وبين سلبية المتدينين الذين لم ولن يشاركوا في مظاهرة، ولا تعنيهم المقاطعة، ولا يبذلون فلساً لغير إخوانهم، تأتي المرجعية الشيعية نمرقة وسطى.

طغيان البحارنة…

لن يكون هذا من مؤمن شريف، ولا من حسيب عفيف، لن يسقط في هذا اللوث نجيب، لن يبلغ هذا التسافل طاهر، ولن يجرؤ على هذا الانحطاط عريق، هناك حدود وخطوط لا يتجاوزها الكرام الأُصلاء مهما بلغ بهم الفسق والانحلال، قد يستخف أحدهم بصلاته، ويتهاون بأحكام دينه، حتى يقع في الربا وشرب الخمر وغيرها من الكبائر.. لكنه لن يفرِّط في عقيدته! لن يهتك شيعي حرمة آل محمد ويتطاول على ولايتهم، لن يساوم في هذا ويماكس مهما بلغ فيه الأمر واضطرب الحال، لن يبيع جوهراً تلقاه أباً عن جد، ونشأ عليه خلفاً عن سلف، بحصى أو حجارة من وقود النار… فإذا فعل، فاعلم بأنَّ الشقاء قد وقع والتعس قد استحكم، وأنَّ الشوه قد غلب والمسخ قد تحقق، فما عاد البائس الهالك كما كان، لا بات حيث هدهدته أُمه وأوْدعه أبوه، لقد خلع ثوبه وتعرَّى عن زيِّه، ترك بيته وخرج عن داره! انتقل إلى ماخور شأنه البغاء والفجور، وملهى لازمه السكر والعهر، فما عاد يقبل سابق الطهر، ولا يطيق ماضي السمو، ولا يريد الرفعة التي كان فيها.

ألا فضَّ الله فاك يا لُكع، وسوَّد وجهك يا وضيع، أتقرن مصاب قرَّة عين الرسول وسيدة الإنس والحور، بغزَّة وسكانها؟! أيعدل حرق بيتها الذي رفعت منه ـ وهي تقف في محرابها ـ عمود نور يحمل العرش، بهدم دور في غزَّة ما عُبد الله فيها ـ حق عبادته ـ لحظة، ولا أُدِّيت فيها من الصلاة ـ كما أمر الله ـ ركعة؟! أتساوي ثالث الأسباط المحسن الشهيد، بوليد سُمِّي تيمناً بصدام؟! الزهراء التي تستنزل بزفرتها الأملاك، وتدير بإشارة من سبابتها الأفلاك، وما برحت متشعشعة في الصقع الأول، مع باكورة الوجود، أُمّاً لأبيها وحليلة لصاحب الحوض واللواء، وأصلاً للأئمة الأطهار النجباء، سادة الخلق طرّاً، ممن سكن الأرض وعاش في السماء.. تقاس مصيبتها بمصيبة فلسطين! أُلعوبة الجامعة العربية وعبدالخالق حسونة، وكورت فالدهايم الأمم المتحدة، مهزلة القرن العشرين وصفقة الدولتين!؟.. ألا شُلَّت أيدٍ تصفِّق بخبط صدورها على هذا الهراء، وقُبِّحت وجوهٌ تنتظم في صفوف، تتمايل وتتراقص، على هذا الكفر والفجور.

اللهم إنا براء من هؤلاء، لا علاقة لنا بهم، لا شأن لنا بأحزابهم، لا نرضى بفعالهم، هم ملَّة ونحن ملَّة، اللهم فاشهد! وها نحن ننكر ما وسعنا، ونجاهر ما استطعنا، فأخرجنا اللهم من القرية الظالم أهلها، ولا تجعلنا من خصماء آل محمد ولا من أعدائهم، ولا من أهل الحنق والغيظ عليهم، فإنَّا نعوذ بك من ذلك فأعذنا، ونستجير بك فأجرنا. ثم المعذرة الصديقة الكبرى والإنسية الحوراء فاطمة الزهراء، فلا سبيل لمنع هذا الاعتداء، ولا قدرة لنا على إسكات الأشقياء.

كيف هانت المقدَّسات وسقطت الحُرُمات وهوى وانحدر الإحساس حتى بلغوا هذا الانحطاط والانتكاس؟ كيف سمح مؤمن لنفسه أن ينتقل من قمم ولاء الزهراء إلى حضيض ولاء الإخوان المسلمين، ومن رثاء مصاب آل محمد إلى ندبة حماس؟

يحسب بعضهم أنَّ غضب الله وسخطه لا يكون إلا في ظواهر كونية أو بلاءات مادية حسِّية… تظهر في الوباء والطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم، أو في حاصب وزلزلة، وخسف وغرق وريح صرصر تجعلهم أعجاز نخل منقعر، وصيحة تخمد الأصوات وتسكت الحركات. أو تراه فقراً ومجاعة وبلاءً، حبساً وتشريداً وتنكيلاً… ولكن الغضب الإلهي له وجوه أُخرى يغفل عنها حتى من تحلُّ به وتنزل عليه، فقد تكون استدراجاً وإملاءً، ذهاباً في المعصية وإغراقاً في المكابرة والعناد، يُسلب شقي نعمة الإيمان، وهو يتبع خطوات الشيطان، خطوة فخطوة، ينكر معاجز أهل البيت وفضائلهم، ويجحد مقاماتهم ودرجاتهم التي أنزلهم الله فيها، ويلحق ذلك بالمصائب التي حلَّت بهم والرزايا والخطوب التي نالتهم، وهو يحسب أنه يحكِّم العقل، أو يُعمِل الضابطة العلمية في التثبت من سند الفضيلة وحقيقة الرزية! حتى يقع في الجحد والإنكار، فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، يطيب له القثاء والفوم والبصل، بدل المنِّ والسلوى ومائدة من السماء! يرحل من رحاب الكساء وأنوار العترة الطاهرة والصراط المستقيم، إلى لوث السياسة وقذارة صفقاتها ومتعرِّج مسالكها ومعوج دروبها، وينقلب من ولاء فاطمة والمهدي، إلى نصرة الإخوان وحماس!

على ظهر أبي رغال يُحمل، ومن جسر أبي مُرَّة يعبر، يأخذه اللعين من الشك الذي زرعه فضلته بظلامة الزهراء، إلى التسليم واليقين، لما رأى التغني بالظلامة يخدم قضية فلسطين! إنهم يخرجون من دين الله أفواجاً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، هل من مصداق أعظم لوقوعهم محلّاً لغضب الله، ومثالاً صارخاً لسخطه؟! أن يخسر المرء جوهرة الولاء، يستبدلها بهذا الهراء؟! جموع الهمج الرعاع تلطم وتلدم، حتى تخال نئيم صدورها وهمهمة أنفاسها تصدع أو تهدم البيت الحرام، وتدمي قلوب حملة العرش، وهم يرون كيف يُستخف بحرمات الله، وتستقبل ألحان الكفر بإيقاع اللطم، فتنزل النقمة بالمرء ويعيش “وأفئدتهم هواء”، وهو حي يرزق، لم يُقبر بعد ولم يُنشر! سرق الأُولى أرضها واغتصبوا إرثها، وهذا الشقي يسلبها مصائبها، ويبذلها نهباً لكل شارد ووارد!

قد نختلف في الفهم السياسي لحقيقة القضية الفلسطينية، ونتفاوت بيننا في القدرة على تحليل حرب غزة وعاصفة الأقصى، بين تعقُّل ورصانة تضع الأُمور في مواضعها المنطقية والشرعية والتاريخية، وبين حماقة وسفاهة قلَّ لها النظير، وحزبية في ذرى الانقياد والإمعية… التيار الضلالي في البحرين، الذي وقف مع فضل الله في تشكيكاته، ومع تعطيل ذكر مصائب الزهراء لسنين، انقلب فجأة لما وجدها فرصة سانحة تخدم مشروعه السياسي بإسقاط مصائب الزهراء على فلسطين! الآن ثبت عندهم كسر الضلع وإسقاط المحسن وإحراق الدار! ليست شطحة ولا أول قارورة تكسر في البحرين، من الواضح الجلي أنَّ هذا نهج، ابتدعه صعاليك كالجانح السهوان، وسار به المستأكل المرتزق الأكرف، وبات طابعاً للفصيل الإيراني هناك وهوية لتيار الضلال في هذا البلد المنكوب بهؤلاء، هذا هو نتاج عيسى قاسم وعبدالله الغريفي، ومن ورائهما فضل الله ومناة الثالثة الأخرى.

وهنا جرائم ثلاث، بحق الزهراء وشعائر العزاء، ثم بحق هذا البلد الطاهر، حاضرة كانت موئلاً للولاء ومركزاً للعزاء، سقطت في الحضيض مذ تولت الحزبية أمرها، من حزب الدعوة إلى فضل الله إلى الخامنئية العمياء.

هناك ألف سبيل وسبيل لنصرة غزة وفلسطين، ليبذل من شاء من جيبه ويصرف من حرِّ ماله، لا ننازع في هذا ولا نمانع… قم بما يسعك، وافعل ما طاب لك، ولكن إياك أن تبذل من ديننا ومذهبنا، وتصرف من رأس مالنا. إنَّ أصل القضية الفلسطينية يعود لوعد بلفور، ومن المحفوظات المدرسية، قصيدة للشاعر القروي، يهاجم فيها بلفور هذا على وعده المشؤوم، وفيها بيت يقول: “لو كنت من أهل المكارم لم تكن، من جيب غيرك محسناً يا بلفرُ”! وها هي الأزمة تعود بوجهها القبيح، وتتكرر على أيدي الذين ينصرون غزَّة باللطم! فالإخوة المضحين، والمجاهدين المستأسدين، يبذلون لها من دينهم وعقيدتهم، ويقدِّمون على مذبح معبدها، وتحت أقدام لاتها وهُبلها، قرابين من أعزِّ حرمات الله وأرفع مقدَّسات الدين! ولو كانوا رجالاً حقاً، لقدَّموا أنفسهم وأبناءهم، وغامروا بأرواحهم كما يفعل اليمنيون! حتى اللفيف الناشط منهم في لبنان، فرَّ مع نذر الحرب إلى إيران، والمعركة ما زالت في أيامها الأولى! فتمَّت المصداقية وظهرت الشجاعة وصدقت التضحية!

لا تعوِّلوا على هؤلاء…

إلى جانب نخبة أصيلة من علماء الدين الربانيين، وصفوة من العاملين المخلصين، حمَلة المعتقد الصحيح وناشري أحكام الشرع المبين، الذين طلبوا العلم وانتسبوا للحوزة قربة إلى الله، لا يريدون من كسب المعارف الدينية والانخراط في هذا السلك المقدَّس إلا وجهه تعالى، وشرف خدمة إمام زمانهم، والنهوض بواجب تكفُّل أيتام آل محمد… إلى جانب هؤلاء، هناك طائفة من أهل العلم ـ يتبعون مرجعيات مختلفة ـ فيهم أساتذة وفضلاء، وجملة من أبناء الأُسر العلمية، وآخرون منسوبون لمشاهير وأعلام، يسعون لتكوين بيوتات تحاول اللحاق، ثم سواد من طلبة صغار، غرَّهم وهْم الوقار وطاب لهم سمت الكبار! يشكِّلون في المجموع تكتلاً ويصنعون محوراً، يسعى للسيطرة على الحوزة العلمية، ويكافح ليظفر بتمثيل الروحانية الشيعية. هذا التكتُّل، هو العنصر الثالث في ساحة تتفاعل فيها اليوم وتتنافس مع النفوذ الإيراني ودور الأحزاب.

إنَّ هذه الشريحة العلمائية، التي تشكِّل إحدى المحاور الأساس في الحوزة العلمية، الفاعلة في تكوين العقل الجمعي لطلابها، والنافذة في صنع القرار فيها، والعمدة في رسم طابعها وما يشار به إليها… هي من أكبر أسباب عجز الحوزة ووهنها، وعلل هزالها وتقصيرها، مما يظهر في اضطراب أطروحتها وتخبُّط خطابها بين الحداثة والتطوير مقابل الأصالة، وبين الثورية والحركية مقابل التقية، ما مكَّن الأحزاب من التفوُّق، وأعان النظام في مغالبته وإخضاعه هذا الكيان العريق! بل إليها يرجع التردِّي المشهود في عموم الساحة الإيمانية، فضلاً عن الحوزوية. وما تراه من طغيان الضلال والبدع، وتفشِّي الرأي المخترع، هو انعكاس لهذه الحقيقة، وثمرة سوء لهذا الواقع المرير. والمعضلة أنها ليست فئة دخيلة ولا عميلة، بل حالة تحكي تاريخاً متقدِّماً، غاية الأمر أنها كانت بين جزر ومد، تغلب الحكمة والأصالة والإخلاص تارة، أو تنحسر لصالح التكسب والاستئكال، ثم الخُرق والغباء أُخرى، وهي تعيش اليوم أوْجاً في المنسوب وارتفاعاً غير مسبوق!

لذا، من الضرورة بمكان تسليط الضوء عليها، والتفتيش في دورها وتأثيرها، بعد معرفة مواصفاتها وبيان معالمها. إنها كتلة الحياد والامتناع… لا يجيب هؤلاء على سؤال، ولا يردُّون شبهة ولا يتصدُّون لضلال! وأوَّل ما يستوقف الباحث، ويلزم المؤمن الفاحص، التنبُّه والالتفات إلى أنَّها جماعة تتوارى وراء خمودها، وتختبئ خلف سلبيتها، التي تجنِّبها الصدام وتوفِّر لها السلامة والأمان، وتتكفَّل بقاءها في موضع يؤمِّن دنياها ورغد عيشها، كما يحقِّق عنوان الالتزام الشرعي (في المنظور العام). ثم يلحق ذلك البراغماتية، الأخذ بالمصالح ودرء المفاسد، سمة غالبة وصفة لازمة، ما يعينها على التكيُّف الذي لا يلتزم مبدأ، ولا تحكمه قيمة وأُمثولة، فكلُّ تكليف شرعي يمكن تجاوزه وتخطيه تحت عنوان المصلحة والتقية، بتفريعات هذه واشتقاقات تلك، وكلُّ خطْب، مهما كان جللاً، يمكن إغفاله وتجاهله، بذريعة ضيق الخناق وعدم الوسع، والمشجب الحمول: “القدرة شرط التكليف”… فتقع الكوارث على الدين، وتحلُّ المصائب بالمذهب، وتنزل الرزايا على المقدَّسات، ولا أحد يحرِّك ساكناً! هناك حقائق بمنتهى الخطورة يجري تزييفها باسم التطوير، وعقائد في صلب المذهب وقوامه، يطالها التحريف بغطاء الاعتدال ونفي الغلو، وحرب شرسة ضد الشعائر الحسينية في العزاء والمزار، بدعوى التنزيه وذريعة مواكبة العصر.. وهذا تراث لاقى السلف في جمعه وتصنيفه الأمرَّين، وتحمَّل لحفظه ونقله الأقورين، بات مادة للعبث ومسرحاً للاستعراض! ساحة قحمها غرٌّ سفيه اتخذ الأحاديث ألعوبة يلهو بها باسم التصحيح، وآخر غلبه الزهو والغرور، حسب أنه يفوق الأولين والآخرين، راح يحكِّم سقيم ذائقته ومريض مزاجه، ويطلق العنان لعُقده النفسية وآفاته الروحية، يهدم ويسقط ما شاء من التراث المعصوم!

والقوم في سبات، وكأن الأحد يلي السبت والخميس يسبق الجمعة!.. ومن هنا تظهر الصفة الأهم ويرتسم المعلم الأخطر: إسقاط التبري من سلوك القوم وقاموسهم! فالسعي للمكانة الاجتماعية وكسب المال، وجمع المريدين وحشد الأنصار، بناء المؤسسات وإرساء المرجعيات، يفرض تقوية “الجذب”، ويقتضي نفي التبري والطرد، واختفاء المواجهة، حتى إذا حكمت موازينهم الباهتة بضلال أحد، فلا صدام ولا قطيعة! كأن سلب التشيُّع جوهره، وتقويض أُسسه ونفي ثوابته وهدم مسلَّماته، مسألة فيها نظر! فلا غضاضة إذا رأيت الأضداد يمرحون في رحابهم، والنقائض يتآلفون في أجوائهم! حرائق شبَّت، وعواصف هبَّت، وبقاع زلزلت، والإخوة الكرام في شغل، بين فرار بذريعة حرِّ التنازع بين المؤمنين، وقعودٍ بحجة برد الفتنة وشقِّ عصا المسلمين، وتقريع أميرالمؤمنين يدوِّي في كلِّ أُذن واعية: “فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنَّت عليكم الغارات…… فقبحاً لكم وترَحاً حين صرتم غرَضاً يُرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، ويُعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم أيام الحرِّ قلتم: هذه حمارَّة القيظ أمهلنا يُسبَّخ عنَّا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبَّارة القُرِّ، أمهلنا ينسلخ عنَّا البرد… فإذا كنتم من الحرِّ والقرِّ تفرُّون، فأنتم والله من السيف أفرُّ”! وهنا أصدر صلوات الله عليه حكمه الخالد وأرسل سهمه النافذ، يخترق الآفاق ويعبر الدهور، ويتم الحجة على الأجيال، وما زال نئيم رميته يدوي، ورنين قوسه ينادي: “يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربَّات الحجال، لوددت أني لم أرَكُم ولم أعرفكم، معرفة ـ والله ـ جرَّت ندماً وأعقبت سدماً، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرَّعتموني نُغب التهمام أنفاساً”.

الكارثة أنَّ هذه السلبية القاتلة ما زالت تُجلَّل بالتعقل والوقار، وأربابها يظهرون حكماء استبقوا الحوادث وأحسنوا قراءتها، حين خلصوا إلى التروي والتأني، يدَّعون التنبُّه للاستدراج واليقظة عن الاحتيال، ويزعمون الوعي بالكمائن والدسائس! وهم بين حريص على دنياه، وموافق لأرباب الضلال! وعلى سبيل المثال الذي ضربه بعض الفضلاء، لولا العلَمان، التبريزي والوحيد، ثم الشيخ بهجت وآغا تقي القمي، لكانت مقولات فضل الله الضلالية سائدة في الوسط الشيعي، ولكنت رأيت‎ جمعاً من الصامتين اليوم، ناطقين ومجاهرين بأنَّ الرجل لم يقل كفراً ولا أتى بدعة ومنكراً، وأنَّ الذهاب إلى تفسيقه والحكم بضلاله، كان تسرُّعاً من الأعلام، وتوثباً حملتهم عليه الغضبة وغلبتهم الغفلة!

يعمل هؤلاء على استقطاب بقية الطلبة والعلماء، وإخضاعهم لهيمنتهم وسلطتهم المعنوية، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ كبير، فهناك كثرة منتظمة في سلكهم، ماضية في ركبهم!.. وباستثناء ثلة مباركة من الطلبة الأحرار المستقلين، فإنَّ البقية يعيشون حالة أشبه بالحزبية، يتحركون بانضباط، وينساقون بانقياد، وإن لم ينتسبوا لتنظيم يحكمهم، ولا قيادة تصدر أوامر أو تعليمات تديرهم! تكفيهم تلميحات خاطفة، وإشارات صامتة، يلتقطونها وهي تسبح في الفضاء، يحملها أثير يبث في دائرة مغلقة، ويتردَّد في نطاق خاص، يستمطرونها وإن كانت سحب صيف، يستنطقون إرشادات وتوجيهات تحملها، ثم يغالون في التزامها، حتى تجعلهم ملكيين أكثر من قيصر!

إنَّ مجسَّات الخطر عند هذه الجماعة لا تعمل أو تنبض ولا تشير للتهديدات الحقيقية التي تتوجَّه إلى الدين، وصافرات الإنذار لا تدق، وأجراس التحذير لا تقرع عند الاختراقات التي تطال عقائد المؤمنين، ولا مع حرائق تشتعل في معالم وثوابت مذهب الحق المبين، كأن التحسُّس والانزعاج والامتعاض، ناهيك بالمواجهة والتصدي، وقفٌ على ما يمسُّ مصالحهم ويطال أشخاصهم، وحكر على ما ينال من هيمنتهم ونفوذهم، ويتهدَّد سيطرتهم وصبغة الحوزة بطابعهم! ترى الحالة العائلية والشخصية هي ما يحكم الأداء، والأعراف السائدة بينهم هي ما يحدِّد المواقف ويرسم المواضع. إنهم يتمتعون بقدرة خاصة وطاقة غريبة على امتصاص الصدمات واحتواء المعضلات! وهم أبرع الناس في المناورة، وأكثرهم كفاية في المراوغة والالتفاف، فكل ما يتحايلون به ويتذرعون ويعتذرون، يُنسب إلى الدين ومصلحة الإسلام والمسلمين!

ولك أن تتأمل في نفوذ شيرازي جاهل يُدعى رشيد، وتوغله الذي بلغ تولي بيان الأحكام باسم الحوزة، قادماً من قلبها ومن قِبلها، يلحق به أخوه حميد، رجل الإطلاعات الإيرانية، لينظِّم حراك الحوزة وأنشطة العتبات في قضية غزة! وثالثهم الأشكوري رأس الجسر في انتقال المناهج والمشارب الإيرانية للحوزة، والثلاثي يشكِّلون بطانة المرجعية المرشحة بعد الحاضرة، فيا لله والمستقبل المرجو والآمال المعقودة! وهنا حقَّ الدعاء للمرجع الأعلى بطول العمر والابتهال إلى الباري تعالى أن يقيِّض للأُمة من بعده مَن يعي الخطر ويدرك أبعاد المؤامرة، فلا يكون من النيام ومن ميِّتي الأحياء!

خذها ممن عاش القضية بتفاصيلها، وقرأ “الكتاب” حتى نهايته: لا ترجو من هذه الكتلة المنطوية على مصالحها موقفاً فيه صدام ومواجهة، إنهم لا يشعرون بقضيتنا ولا تعنيهم همومنا، لن ينصر هؤلاء الدين، ولن ينجدوا عقيدة للتشيع ولا فضيلة لأميرالمؤمنين، طالما خذلونا عند الوثبة، فرُّوا من الزحف وتخلَّفوا عن القتال، قبل أن يحمى الوطيس ويستعر النزال، عرفناهم في فتنة فضل الله متربِّصين، وفي عاصفة الحيدري على مقاعد المتفرِّجين.. أبناؤنا يُسرقون، ومجتمعاتنا في تيه، يعبث بها المتردية والنطيحة، يأخذون دينهم من اليعقوبي وأمير، وپناهيان وقصير، عشرات الملايين يقلِّدون مرجعيات زائفة باطلة، لو قارنت الموقف منها، بالانتفاضة التي صاحبت مرجعية سيد محمد الشيرازي في السبعينات، لعرفت حجم الكارثة التي تعيشها الطائفة اليوم. وهذه أمواج الضلال تعصف بنا، تقدم من لندن وطهران والبصرة ولبنان، بين بابية مقنَّعة، ووهابية مبطَّنة، و”العلماء” في صمت القبور! ولو سبرت موقف الحوزة في عهد الشيخ محمد حسن الجواهري والشيخ علي كاشف الغطاء والفاضل الدربندي وآغا رضا الهمداني وعشرات من علمائنا الأعلام، حماة المذهب وجنود صاحب الزمان، لما تردَّدت في لفظ من يدبِّر الأمر، وإدانة هذه الكتلة الميتة التي تقود المسيرة اليوم! والبلاء الأكبر، كما الشيطان الأكبر، أن يحسب أحدهم نفسه الخضر أو العبد الصالح! يريدنا أن نُمضي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، نمتثل ونصمت، ونحن نرى كم هو مكبٌّ على دنياه، مطيع لهواه، مخالف لمولاه…

لن يلبث الأطهار في سدوم، سيرحلون مع إمامهم، ولن يكونوا في قوم لوط.. ولا نامت أعين الجبناء.

نحن ونصرة حماس؟!

طالما كنت أتحاشى المناقشات الارتجالية، وأحجم عن الدخول في المخاصمات والمحاججات وليدة الساعة، إيماناً بأن الآراء والمتبنيات إنما تقوم على بحوث علمية مستفيضة، والعقائد والأفكار تأتي من دراسات وافية وعميقة، أخذ حاملها فرصته من التأمُّل والتدبُّر، لم يُؤخذ بالصدمة والفجأة فغفل ونسي، ولا نزل به العي وطاله التبكيت، فارتُج عليه من اعتقال لسان أو عُجمة… لكن استثناءً وقع بالأمس، لما التقيت صديقاً مخلصاً، على درجة مشهودة من العلم والثقافة، ومرتبة متقدِّمة من الاطلاع والبصيرة، فدخلت معه في مساجلة وخضت مطارحة، من هنا كانت هذه المحاججة… كان المدخل موقفاً مؤلماً أو مزعجاً لهذا المؤمن الصالح، ظهر في استخفافه وعدم اكتراثه بما يجري في غزَّة! ما أثار الاعتراض وأذكى الاستنكار وأشعل الحوار. والمقالة تنقل ما طرح الرجل في احتجاجه، دون الردود على أقواله وآرائه، لشيوعها وغلبتها على الساحة، وعدم حاجتها لمزيد بسط ونشر، وغناها عن أي بيان وإيضاح، بخلاف رأيه الغريب، الذي نسبه إلى الاستضعاف والوقوع ضحية القمع والإرهاب!

“إنني أتجنَّب سهام الدجل التي ترسلها القنوات الفضائية، تصرع بها خلق الله، أن تصيبني وتنال مني. وأحذر ما يزكم الأنوف من اللوث الذي تفشيه الآلة الإعلامية العربية والحزبية والإسلامية، فينزل بي. وأربأ أن أكون من الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق. تأبى نفسي اللحاق بقطيع الغنم، وأن تحطَّ ربيضةً محدِقة بالمورد، منثالة عليه من كلِّ جانب، حتى لتطأ الحق وتتلف مواقعه وتسحق بالحوافر معالمه، تثغو من حماسة وتعبُّ من ظمأ”!..

“أ رأيت كيف يستنفر السفهاء منَّا ويمضون في تفنيد كلِّ جزئية من المقتل الحسيني؟ يلاحقون كلَّ مشهد عابر وقع يوم الطف، حذر أن يُبكي الشاعر والراثي الناس على صوَر «مخترعة»، ويعدِّدون رزايا «لم تثبت»، وبتعبير موجز يباهون به «يحاربون نسج الخرافات وخلق الأساطير»!؟.. لا أريد ـ بدوري ـ أن أُستغفل، أندب وأبكي، أتفجع وأجزع على مستشفى وأطفال، والمشهد الحقيقي، والرؤية في الحديقة الخلفية أو الطوابق السفلية، تحكي قواعد عسكرية، ومقرات قيادة، ومخازن ذخيرة! لا أُريد أن ألتاع على أخبار انقطاع مزعوم للماء والكهرباء وشبكة الاتصالات منذ اليوم الثالث للحرب، ما زالت فاعلة بنحو وآخر بعد شهر من الحرب والقتال”!

“لا أريد أن أتساوى مع المستغفَل الساذج الذي يهتف مع المهرجين في تظاهرات ساحة الإرادة، وأنا أعلم خلفية التحالفات الإخوانية مع تيارات وشخصيات عادت إلى المقاعد النيابية بدفع ونصرة هذا التنظيم الماسوني، وأخرى حظيت بمناصب عليا في الدولة ووظائف إشرافية كبرى من دعمهم وتزكيتهم، فهم أركان الدولة العميقة، وبيدهم خيوط السلطة الخفية، يحرِّكونها فيقصون من يشاؤون، ويرفعون من يريدون! لا أريد أن أخلط عملاً صالحاً من التألم للمظلوم والدعاء له، بآخَر سيِّئ من مصالح وصفقات ولوث سياسي”.

“لست معقَّداً من الفلسطينيين، وإن كانوا عملاء في المخابرات البعثية، وأدلَّاء للجيش الصدامي الذي غزا بلدي، وأنهم ـ في جُلهم ـ من النواصب الذين يبغضون أهل البيت وشيعتهم، يتشفون بقتلهم والتنكيل الذي يطالهم، ويشمتون بالمصائب والويلات التي تحلُّ بهم… ففي الفلسطينيين مَن كان معلِّماً لي من الابتدائية حتى الثانوية، وفيهم مَن عمل على تنمية بلدي وازدهارها، وقبل هذا وبعده، فيهم نجوم لامعة في سماء الاستبصار أمثال أحمد حسين يعقوب، وآخرين كأسعد وحيد القاسم، ومروان خليفات”…

“كنت حاضراً في موكب حسيني يضم نخبة من العلماء، يخدمون زوار الأربعين بين النجف وكربلاء، حين دخل المضيف وفد من حركة حماس يصحبه مرافقون إيرانيون وحزبيون، استُقبل بحفاوة وترحاب، حتى إذا تحدَّث أحدهم، وكان منطيقاً مفوَّهاً، أسهب في التنظير لنقاط الاشتراك بين النهضة الحسينية وحركة المقاومة، ثم انعطف على العلماء وتقدم إليهم بطلب، أن يدرجوا خطاب فلسطين والأقصى والمقاومة في محاضراتهم وشعاراتهم وهتافاتهم، وجعلها من الشعائر الحسينية، وقال إن ظفرنا بعُشر هذا الزخم الجماهيري المنساب نحو كربلاء، الذي يناهز عشرين مليون نسمة، وجذبناهم للقضية، فهو فتح نوعي سيقلب موازين الصراع العربي الإسرائيلي!.. حتى إذا فرغوا وأخذوا طريقهم للانصراف، استوقفهم أحد الفضلاء، يبدو أنه مقرَّب من صاحب الموكب ومديره، وخاطبهم بلغة تجمع الإشفاق والرجاء إلى الحسم والمضاء: إنني أتعهد لكم أن أجعل القضية الفلسطينية محور محاضراتي وخطاباتي، من الآن حتى تحرير القدس، وأتعهد بالسعي لإقناع زملائي، بل حتى مراجعنا العظام، أن يستغلُّوا كل فرصة لطرح هذا الخطير… في المقابل أُريد منكم أمراً ميسوراً مبذولاً، تؤمنون به وتتبنونه، كما ظهر من حديث المتكلم الذي نوَّه بأنَّ نبينا وكتابنا وقبلتنا واحدة و90% من عباداتنا مشتركة ومتوافقة (وأنتم لا تعملون بالتقية، فتقولون ما لا تعتقدون خوفاً أو مداراة)! فسألوه بلهفة: ما هو طلبك؟ قال: لتُصدر حركة حماس بياناً رسمياً يعترف بأن الشيعة مسلمون! دمهم ومالهم وعرضهم حرام، وتذهب في حملة إعلامية وتثقيفية تسقط فكرة التكفير، واستباحة الدماء. لا أُريد أكثر من هذا! لتبقى الخلافات والعقائد على ما هي عليه، ليتمسك كلٌّ بالنهج الذي يعتقد أنه ينجيه يوم القيامة، أنتم مع الصحابة ونحن مع أهل البيت، نحن نزور عتباتنا المقدَّسة ونتوسَّل بأئمتنا ونبكي الحسين، وأنتم ترون ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار! لا بأس، كونوا على عقيدتكم بأننا من أهل النار، وأنكم الفرقة الناجية، ونحن كذلك، نبقى على عقيدتنا بأننا الناجون، وأنكم في النار… ولكننا، نحن وأنتم، نمضي في حياتنا الدنيا، إخواناً يكمِّل بعضنا بعضاً، نعيش قضايانا الخاصة منفردين، ونلتقي على القضية الكبرى المشتركة وهي تحرير فلسطين.

عمَّ الفضاء صمت رهيب، وأعضاء الوفد يتلفت كلٌّ منهم نحو الآخر، ينتظرون مجيباً أو رادّاً، فلم يبادر ولم ينبس أحد منهم بشفة.. مضوا في طريقهم نحو المخرج، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، وإن سمعوه فلم يفقهوه، وراحوا يصافحون صاحبنا الذي شيعهم حتى الطريق، دون أن يزيد أحد منهم على عبارات السلام والوداع غير ابتسامة صفراء، غلب فيها الإحراجُ الخبثَ والكيد وإضمار الشر والدهاء”!

إنَّ الذين أبلغوا ترامب وأحاطوه علماً بالضربة الصاروخية الانتقامية على اغتيال سليماني، وضمنوا له وتعهدوا أن لا يُقتل أمريكي واحد في عين الأسد، هم الذين كفُّوا أيدي الحزب ومنعوه من الانخراط في حرب غزة، ونعم ما فعلوا، فهذا ـ في نظري ـ عين الحكمة والصواب، وهو ما يكشف عن حقيقة الخطاب الثوري الذي يحمله هؤلاء، وأنه لا يعدو سلعة يتكسَّبون بها، وبضاعة استهلاكية يستأكلون بها، ويخدعون الصغار، يجمعون الأنصار ويكثرون تحت رايتهم الأخيار والأشرار. وإلا في الحقيقة، فإن بين القوم والثورية، ما بين الأرض والسماء.

إن قادة حماس والقاعدة والنصرة وداعش وسائر التظيمات الإسلامية، السياسية منها والجهادية، يعرفون أنهم مشاريع استعمارية، وأنهم مجرَّد وسيلة لتحقيق أهداف أسيادهم الإقليمية والمناطقية، ورقة ضغط على هذا النظام، وأداة مناورة على ذاك، وعنصر منافسة وإرباك… ولكنهم لا يأبون ذلك ولا يمانعون منه، بل يرحبون فيه ويهللون له، ما دام يحقق لهم هدفاً واحداً هو إفراغ حقدهم الطائفي! وما زال الانتحاريون، يتمنطقون بالأحزمة الناسفة ويفجرون أنفسهم في مساجد الشيعة وأسواق الهزارة وحافلات مدارس الأطفال في أفغانستان، وحرب غزة مستعرة، تحمَّل الشيعة في إيران كلفتها، بميزانيتها الضخمة، وتسليحها الذي لم يدَّخر دون حماس سرّاً تصنيعياً يحفظ للجمهورية تفوقها، والأهم من هذا وذاك، أنها ما زالت تتحمَّل التبعات وتدفع الثمن حصاراً مهلكاً وحروباً مدمرة، المخرج منها مبذول منذ أربعين عاماً: التخلي عن القضية الفلسطينية، فلا تفعل!.. والقوم يلاقونها بهذا الجزاء”!

عاد صاحبي ليقول: “هل تعلم إلى أين نحن ذاهبون إذا انتصرت حماس؟ هل نسيت طالبان في أفغانستان؟ هل نسيت داعش في العراق؟ هل نسيت النصرة في الشام؟ هل نسيت حزَّ الرؤوس والتمثيل بالجنائز وانتزاع القلوب من الصدور والتهامها، لا كآكلي لحم البشر في أفريقيا، بل كالوحوش والضباع الضارية… هذا ما ينتظر بلاد المسلمين إذا انتصرت حماس، لذا لن يغلبني الحماس! ولكن هذا لا يعني أن أفرِّط بإنسانيتي، وأبدِّد وأضيِّع مشاعري… ما زلت مرهفاً، أبكي الظلامات والفجائع، كما كنت أبكي على هانوي تحت القصف، والضحايا بوذيون أو ملاحدة، وأبكي على أبرياء غافلين في هيروشيما وناكازاكي، وأبكي على كونتا كنتي والعبودية في رواية  أليكس هيلي… ولكني لن أنسى اللطيفية وسبايكر، والزرقاء، قاتل الله الزرقاء، تبتهج بتفجير الحلة الذي وقع بشاحنة مفخخة يقودها انتحاري استهدف مدنيين عزَّل تجمعوا قرب مركز طبي للحصول على شهادات لمواليدهم، أدَّى إلى مقتل 127 ضحية جميعهم من الشيعة!.. والطغام يتوافدون على دار الانتحاري في الزرقاء (الأردن)، ووالده يأبى استقبالهم إلا بعنوان المباركين له بهلاك نغله، فهذا الشيطان عنده شهيد لأنه قتل الرافضة، فعمَّت البلدة الأفراح وكأنه عرس جماعي لم يخل بيت إلا ودخله السرور!

أعرف جيداً مداليل قوله تعالى “ولا تزر وازرة وزر أخرى” و”لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى”.. ولكني أعرف أيضاً وأفهم قوله تعالى “الذين جعلوا القرآن عضين”، اقتطعوا من الدين ما يناسبهم، ويخدم مشروعهم السياسي. أخي العزيز، هناك منظومة ضلال كبرى تقود الساحة الدينية، لن أنخرط فيها، لإثارات عاطفية، وإن كانت محقة. لن أُغرر بالعوام باصطفاف يضفي المشروعية على شياطين يهتكون الدين، يستبيحون كُنهه ويزرون بجوهره، منخدعاً فرحاً بأنهم اقاموا الصلاة هنا، أو لعبوا الجهاد هناك، إنني أنظر الراية وألحقها، والرايات في زماننا، رايات عهر في مضارب الفجور، أو ضلال تُرغم الموالي المقهور!

في الحديث الشريف عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: “إن آية في القرآن تشككني. قال: وما هي؟ قلت: قول الله إنما يتقبَّل الله من المتقين. قال: وأي شيء شككت فيها؟ قلت: من صلَّى وصام وعبد الله قُبل منه؟ قال: إنما يتقبَّل الله من المتقين العارفين. ثم قال: أنت أزهد في الدنيا أم الضحاك بن قيس؟ قلت: لا بل الضحاك بن قيس، قال: فإنَّ ذلك لا يُتقبل منه شيء مما ذكرت”.

الحقيقة المغفول عنها، والحق الذي تسعى الأحزاب لطمسه، ينطوي في جواب السؤال المطروح اليوم: هل حماس في طوفان غزة أكثر جهاداً وتضحية وفداء و”تقوى”، من المؤمن النائم على فراشه في داره؟.. الحق أنَّ كل مَن لم يعرف إمام زمانه، داخل تحت “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا”… لأنفاس مستلقٍ، تتردَّد في صدره المنشرح بولاء آل محمد، تنعش قلبه العامر بحبهم، خير من جهاد تتقطع فيه الأوصال، وتدمَّر البيوت، وتُهجر الأوطان… يا ليت قومي يعلمون.

خذ بخناقه واصفع وجهه!..

لا عِرق غضب يضرب فيهم ولا شريان غَيْرة يهيج، لا أنفة يثيرها امتعاض ولا رجولة تستفزها نخوة، وجوه جامدة بل متجمدة، خمد فيها التأثر والانفعال، وغاب عنها الشعور ومات الإحساس، ونفوس كسولة، تافهة ملولة، انماثت فيها المروءة وهمدت الحميَّة، وزال السخط واندثرت الكرامة، فلا تهبُّ فيهم هذه لتُنهِضهم، ولا تنزل بهم تلك لتنقذهم!.. على هامش الحياة يمضون وإن بدوا واجهات، ولعلَّ بعضهم يلمع كنجوم. ومع أن الدنيا لم تقبل عليهم إلا بفتات، ولا نالوا منها ما بلغ أربابها من سلطة ومال وشهرة، إلا أنهم باعوا آخرتهم بهذا الضئيل، ورضوا أن يكونوا مع الخوالف لهذا البخس اليسير. علماء دين ومثقفون وناشطون متدينون، يفترض أنَّ الشأن الديني هو محور حراكهم ومرتكز نهضتهم ونشاطهم، كما يفترض فيهم الوعي والتنبه لما غفل عنه غيرهم من العوام، وإدراك ما خفي على سائر المؤمنين النيام… لكنهم يتجنَّبون، وهم الطليعة القائدة والكوكبة الرائدة، أيَّ فعل وموقف ينوِّه بهويتهم الطائفية، وأدنى قيام ودفاع عن شخصيتهم المذهبية، كأن الانخراط في قضايا المذهب والدفاع عن شؤون البيت الشيعي، أمر معيب، أو يتعارض مع رسالتهم وانشغالهم في القضايا الإسلامية العامة أو الوطنية الخاصة!؟

إنَّ مقدَّسات المذهب تُهتك، وحمى معالمه تُنتهك، وأبناؤه، ولا سيما الشباب، في اضطراب وضياع، بلغ في بعض الموارد التيه والشتات، والقوم في سكون وسبات! عبث وفوضى تضرب أطنابها في الشعائر الحسينية والحوزة العلمية والمرجعية الدينية والعتبات المقدسة… أداء سحق الأصالة وأودى بكُنه الشعائر وجوهر رسالتها، انحدار وفشل ذريع في مخرجات المناهج المحدَّثة للحوزة، صعاليك يدَّعون الاجتهاد والفقاهة، وأحزاب مريبة اخترقت إدارة العتبات، وتبنَّت آراءً منحرفة ومواقف مخزية، وسقطت في الفساد والخيانة، ما ذهب بحرمة الموقع وحصانة الدور، وألحقته بالإتجار والعبث بعد القداسة والخفر!

والمعنيون بالتصدِّي، المخاطَبون به من علماء ومثقفين وحركيين، يتجاهلون كل ما يجري ويهملون كل ما يقع، ويمضون في صمت وإغضاء وإطراق، كأن الأمر لا يعنيهم، ولا القضية تمسُّهم! وفي أحسن الأحوال، تراهم في ترقُّب، ينتظرون مَن يكفيهم المؤونة، ويقلب الوجوب من العيني إلى الكفائي، وكأن حمى الدين وأُصول المذهب ميتٌ على أحدٍ أن يقوم بتجهيزه والصلاة عليه ودفنه! وخذ هنا في الفذلكات التبريرية، والديباجات المعذِّرة، ما يسطر مطولات، ويصرف طاقات ويهدر المزيد، ويشغل أكثر مما يطلب العدو ويريد! وأدناها ما يتناولونه من قريب: “الباطل يموت بتركه”!

هناك مَن ينزع، في فهم الرجال ومواقفهم، إلى التحليل النفسي، وقراءة الطباع والسجايا، ويصرُّ على تتبع عوامل الوراثة ودورها في البناء الروحي والأداء الأخلاقي للفرد، مع هامش لا ينكر من دور وتأثير للالتزام الشرعي، وتمسُّك الملتزم بالأحكام والآداب… فيخلص إلى أنَّ هناك ضعة وخسة ودناءة، لا تسعف بعضهم للنهوض بأدوار شريفة جليلة، فيها نُبل الدفاع عن الحق، ومجد نصرة الدين، وما يأخذ بهم إلى مصاف العظماء والمصلحين.كما أنَّ هناك جبن وخرع، أو قُل وداعة ورخاوة، وسكون ولين، لا يتيح النهضة والقيام وما تتطلبه من خشونة وشدَّة، وقسوة وحدَّة.

ويقابل هذا الرأي، آخرون يُرجعون أمر هذه السلبية إلى ضعف العقيدة وهزال الالتزام الديني، وأنَّ مَن يُشار إليه بالتصدي لأدوار القيادة والريادة ليس في واقعه أهل لذلك، ولا استوفى الشروط، إنما هي ظروف قادت وصروف أفضت، فشدَّ الناس السروج على الحمير والبغال، وتوَّجوا بالعمائم رؤوساً كان الحق أن يعلوها النعال! وببساطة ووضوح، الرجال هنا طلاب مال وشهرة، وأتباع جاه وسلطة.

وهناك طائفة ثالثة تذهب إلى أن هؤلاء، لا يختلفون، يعانون ـ كما أولئك ـ من الفساد العقائدي والانحراف! فمن يُشار إليهم كعلماء ومثقفين أعلام، يرجى منهم القيام، وتُعلَّق عليهم الآمال في مواجهة الظواهر السلبية والتصدِّي للضلالات التي تهدد المذهب والهوية.. يعانون في حقيقتهم من الضعف والاهتزاز، والخواء وانتفاء الارتكاز، ولربما كان بعضهم ـ فيما يخفي ـ أكثر ضلالاً من أُولئك المفتَضحين أصحاب الرايات، غاية الأمر أنه بقي متوارياً،لم يظهر عقيدته ويكشف سريرته!

ومن هذه العوامل وتلك، يمكنك أن تقرأ علامات الانتكاس والتراجع في بعض الفضلاء ممن كان له شرف المساهمة في نصرة الزهراء ومواجهة الضلال في بدايات فتنة فضل الله، الأمر الذي خلع عليه بُردة الشرف بل تاج الكرامة، وما لحق من شهرة وقبول ومحبة في قلوب المؤمنين… تراه اليوم يتنكَّر لفضل هذا الموقف وذاك الاصطفاف، ويعمد ليخوض الميدان بمقوِّماته الشخصية، يحسب أحدهم أنَّ فضله، وآخر أن بيته وانتسابه، يكفيه ويغنيه، وكفيل بأخذه إلى ما يحقِّق طموحه. غافلاً أنَّ المرجعية لن تكون في مَن زار فضل الله يوماً، أو برَّر لفعله والتمس له الأعذار، وترحَّم عليه وشارك في تأبينه، ولا في مَن انتسب إلى الأحزاب وانخرط في تيار الضلال تحت أي عنوان، ومن أي باب. وكأن هذا من إرادة المقادير وخفي التدبير، ولو تفكَّر المرء في غياب بعض الشخصيات وظهور أُخرى على الساحة، وأُفول بعض النجوم وصعود آخرين، لوقف على جانب من هذه الحقيقة، وعرف شؤم جامعة المصطفى والأحزاب والتيارات السياسية التي تحتضن هذا، ويدفع إعلامها ذاك، ترفع جيوشها الإلكترونية مَن دخل حزبها وتسوِّق لمن التحق بركبها!

لا تريد الساحة الإيمانية موقفاً ثورياً يشهر السلاح ويردع المنحرفين والمتآمرين على الدين، يواجههم بالعنف والقوة، بل تريد شيئاً من الغيرة والحمية التي تخرج واقعنا من السلبية. كان الثوريون في العهد السابق يغارون على عقائدهم وينهضون للدفاع عنها، وكنت تلحظ في بعض الأحيان أن الغيرة عليها أكثر منها على شعاراتهم السياسية، يقفون ضد النيل من الشعائر الحسينية، يوجهون البلاد بأسرها صوب الالتزام بأصالتها والإبقاء عليها تقليدية (سُنتيَّة)، ويتموضعون ضد المسِّ بمناهج الحوزة ويصرُّون على استمرار منهج الجواهري والشيخ الأنصاري، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها على كلمة عابرة أصابت من بعيد مكانة الزهراء عليها السلام، دعت للبحث عن امرأة أُخرى معاصرة تصلح أن تكون قدوة لنساء زماننا. وهكذا كان الغيارى من غير الثوريين، لا يباتون على ضيم مسَّ المذهب، وظلامة طالت سيدة نساء العالمين، جحدت كسر ضلعها وأنكرت إسقاط جنينها، زلزلوا الأرض تحت أقدام فضل الله وأنصاره، حتى انكفأوا وتقزَّموا، وسُحقت مرجعية مزيفة ضالة، كانت مُعدَّة لقيادة انحراف يسلخ عن المذهب هويته، ويمسخ عنه حقيقته… أما اليوم، وقد رجع الثوريون إلى علي شريعتي، والتحقوا بالإخوان المسلمين، ما عادوا يبكون إلا على الأقصى وفلسطين! وأما غير الثوريين، فقد أصبح كل منحرف لا ينافسهم على دنياهم، مكرَّماً مبجلاً، وغدت مادة الضلال التي أسقطت فضلة الشيطان، بضاعة “علمية” ومادة “حوارية”، ينهض “تيار التصحيح” بترويجها وتسويقها، فيحتضنه الدنيويون ويوقِّره الوصوليون!

في الحديث الشريف: “إنَّ الله جلَّ وعلا بعث ملكين إلى مدينة ليقلباها على أهلها، فلما انتهيا إليها وجدا رجلاً يدعو الله ويتضرع إليه، فقال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الرجل الداعي؟ فقال له: رأيته ولكن أمضي لما أمرني به ربي. فقال الآخر: ولكني لا أُحدث شيئاً حتى أرجع. فعاد إلى ربه فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعو ويتضرع إليك. فقال عزَّ وجل: امض لما أمرتك، فإنَّ ذلك رجل لم يتغير وجهه غضباً لي قط”. وفي حديث آخر عن الباقر عليه السلام: قال علي عليه السلام: أوحى الله تعالى جلَّت قدرته إلى شعيا إني مهلك من قومك مئة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم. فقال عليه السلام: هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: داهنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي”.

وقد أورد السيد المرتضى في عيون المعجزات أنه: “لما قبض الرضا كان سن الجواد نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبدالرحمن بن حجاج، ويونس بن عبدالرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في بركة زلول، يبكون ويتوجعون من المصيبة. فقال لهم يونس بن عبدالرحمن: دعوا البكاء! من لهذا الأمر، وإلى مَن نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر عليه السلام؟! فقام إليه الريان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تُظهر الإيمان لنا، وتُبطن الشك والشرك؟ إن كان أمره من الله، فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمَّر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا مما ينبغي أن يفكَّر فيه. فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبخه”.

إن أمثال هؤلاء الأفذاذ هم الذين حفظوا المذهب ونقلوا التراث وأوصلوه لنا، ومثل هذه المواقف البطولية التي تتفجَّر غيرة وحميَّة، يسبقها علم ومعرفة وورع، هي التي أبقت المذهب في مساره ومكَّنته من الصمود ومقاومة أكبر المؤامرات تعقيداً وأعتى الهجمات ضراوة وأشد المصائب والمحن ألماً… ومما ينبغي للمتأمل الوقوف عنده في هذه الواقعة، أنَّ المحفل كان يضم نخبة الشيعة وأعلامهم، أعظم فقهائهم في ذلك العصر، ومع ذلك لم يصبر الريان بن الصلت ولم يسمح بغرس أو إثارة شُبهة، بدت عابرة، (أغلب الظن أن طرحها كان مقصوداً إن لم يكن بأمر خفي مُسبق من الإمام، فليس مثل يونس بن عبدالرحمن مَن يقع في هذا). ومع أنَّ النطاق كان خاصاً محفوفاً، ضيقاً محدوداً، ولا خطر على من سمع كلام يونس، ولا سعة لبناء شبهة أو ضلالة تترتب عليه، لكن العالم الرباني لم يصبر أن يأخذ بخناق أخيه، بل أن يوسعه لطماً!

لعمري، كيف بالريان لو كان في عصرنا، يشهد هذا الإفراط في التشكيكات وإلقاء الشبهات، ورأى البطَن أو السلس في التضعيفات والتحريفات، تلقى على الملأ وفي العلن، عبر الفضائيات والإذاعات، ووسائل التواصل والمدوَّنات، والكتب والمطبوعات، ما لا يوفر من الشيعة شاباً أو فتاة، رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً… إنَّ الساحة الإيمانية تتطلَّع إلى موقف ورجل أو جمع على شاكلة الريان بن صلت رضوان الله عليه، لا يكتفي بوضع يده في خناق الطاغوت الذي يرعى تيار الضلال اليوم، ويلطمه على وجهه فحسب، بل يكمل نهضته ويُتم فضله، فيحمل فأساً إبراهيمية يهوي بها على أعوان الشيطان وزبانية السلطان، حتى يجلي عن المذهب كلَّ زيف ألحقه، ويزيح الريب عن المعارف التي طمسها وشوَّهها، ويعيد للشيعة رشدهم الذي فقدوه في عهده وعلى يديه.. سيقيِّض الله لدينه ويبعث من خاصة أوليائه مَن ينهض بهذا الدور ويحظى بهذا الشرف، وتأبى المروءة أن تفارق أهلها، وخلق الله للحروب رجالاً، ورجالاً لقصعة وثريد.